قضية ياسين الشبلي بين منطق العدالة وحملات التسييس والشيطنة والمفارقات الحقوقية المقيتة

من يراقب الحملة المثارة حول قضية ياسين الشبلي بعد صدور الأحكام القضائية الأخيرة، يخال له أننا أمام ملف إبادة جماعية أو سياسة قمع ممنهجة تتبناها الدولة ضد مواطنيها. لكن التدقيق في المعطيات، والنظر إلى سلوك الأطراف المنخرطة في هذا التجييش، يكشف أننا لا نعيش معركة من أجل العدالة، بل أمام فصل جديد من الاستثمار الانتهازي في القضايا الإنسانية، لاستهداف المؤسسات وشيطنة الدولة.

لقد أُفرغت القضية من بعدها القانوني والحقوقي، لتتحول إلى منصة للمزايدات، حيث أصبح بعض المحامين والنشطاء يتسابقون في إطلاق أوصاف “الجريمة السياسية” و”جريمة الدولة”، في تجاهل تام للحقائق الأساسية التي تؤكد أن ما وقع، بكل أسف، هو سلوك فردي منحرف تعاملت معه مؤسسات الدولة بما يقتضيه القانون.

فالواقعة، مهما بلغت بشاعتها، لا تمثل إطلاقا سياسة ممنهجة أو سلوكا مؤسسيا داخل المديرية العامة للأمن الوطني. بل إن هذه المؤسسة الأمنية كانت هي أول من تفاعل مع القضية بمهنية ومسؤولية، حيث بادرت إلى فتح تحقيق، وأحالت المتورطين على القضاء، بل وساهمت في الكشف عن التفاصيل الدقيقة عبر إمداد النيابة العامة بالتسجيلات والكاميرات، دون أي محاولة للتستر أو الحجب أو الضغط.

أما القول بأن هذه الحالات “ممنهجة”، فهو إساءة مجانية في حق آلاف رجال ونساء الأمن الذين يشتغلون ليل نهار من أجل حماية المواطنين وضمان سلامتهم، وغالبا ما يكونون هم أنفسهم ضحايا لاعتداءات إجرامية، دون أن يجدوا من يدافع عنهم أو حتى يذكر أسماءهم.

ومن الغريب أن يختزل البعض مؤسسة أمنية بكاملها في سلوك فردي شاذ، بينما يرفضون التعميم عندما يكون الجاني مجرما أو متطرفا أو بلطجيا. إن المفارقة القاتلة تكمن في ازدواجية المعايير التي تحكم مواقف من يسمّون أنفسهم بـ”الحقوقيين” والمناضلين.

عندما يتعلق الأمر برجل أمن ارتكب تجاوزا، يُطالب هؤلاء بأقصى العقوبات، ويُطلقون العنان لألسنتهم بالشيطنة والتجييش، ويصفون الدولة كلها بالمجرمة. أما عندما يكون رجل الأمن هو الضحية، حين يُقتل غدرا وتُحرَق جثته وتُمثَّل بها كما حدث في قضية الشرطي المغدور بالدار البيضاء سنة 2023 على يد إرهابيين موالين لداعش، فإننا لا نسمع إلا صمتا مريبا، بل مقززا. لم نرَ بيانا ولا وقفة ولا إدانة، ولا حتى تضامنا رمزيا مع عائلته، وكأن دمه أرخص لأن زيه كان أزرق!

ولمن نسي، فليُذكَّر بمشهد الجريمة.. شرطي يُقتل بدم بارد، يُسحب إلى مكان مهجور، يُحرَق جسده وتُشوّه جثته، في جريمة من أفظع ما سُجّل في أرشيف الإرهاب. ومع ذلك، لم ينبس هؤلاء المدّعون بكلمة واحدة، لا عن حقه في الحياة، ولا عن كرامته كمواطن مغربي، فقط لأن القاتل كان إرهابيا والضحية رجل أمن!

وما أكثر الأمثلة… من مجرمي مخيم كديم إيزيك الذين قتلوا ومثّلوا بجثث عناصر القوات العمومية بوحشية، إلى مجرمين خطيرين اعتدوا على رجال الأمن أثناء أداء مهامهم. في كل هذه الحالات، يختبئ هؤلاء وراء شعارات “العدالة” و”إعادة الإدماج”، ويفرغون قاموسهم الحقوقي دفاعا عن الجلاد، بينما لا نجد لهم صوتا حين يكون الضحية رجل سلطة.

الأدهى أن نفس الأصوات التي تطالب اليوم بأقسى العقوبات في حق رجال الشرطة في ملف ياسين الشبلي، هي نفسها التي كانت تدافع بشراسة عن مجرمي كديم إيزيك الذين قتلوا ومثّلوا بجثث أفراد من القوة العمومية بطرق وحشية. نفس الوجوه التي ترفع شعار العدالة في وجه الدولة، هي التي كانت تنادي بإطلاق سراح مجرمين حقيقيين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية.

هذه المفارقة ليست بريئة. إنها تكشف عن منطق انتقائي يُفرغ القيم الحقوقية من مضمونها، ويجعل من “حقوق الإنسان” مجرد سلاح في وجه الدولة لا غير. فالعدالة عند هؤلاء لا تُطلب إلا عندما تكون وسيلة لضرب مؤسسات البلاد، أما حين يكون الضحية رجل أمن أو ممثل للسلطة، فصمٌّ بكمٌ عُميٌ لا يفقهون.

إن قضية ياسين الشبلي، مهما كانت تفاصيلها مؤلمة، يجب أن تُعالج في إطارها القانوني لا عبر منصات التحريض. وإذا كانت هناك اعتراضات على الأحكام القضائية، فإن القانون يتيح وسائل الطعن، وليس من الشرف ولا من الوطنية تحويلها إلى مطية لتشويه الوطن.

المغاربة اليوم أكثر وعيا من أن تنطلي عليهم شعارات ممجوجة، والتاريخ لن يرحم الذين باعوا مبادئهم في سوق النضال المزيف.

الدولة المغربية ليست مثالية، لكنها لا تحمي مجرما ولا تتستر على فاسد، وما وقع في ملف الشبلي دليل على أن لا أحد فوق القانون، وأن المؤسسة الأمنية نفسها كانت أول من ساهم في فتح الملف وإنصاف الضحية، بعيدا عن لغة المزايدات. أما الذين يزايدون باسم العدالة، فلا يسعون لها، بل يريدون فقط رأس الدولة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى