بعد بوعلام صنصال.. النظام الجزائري يستهدف الكاتب كمال داود لإخراس صوته بسبب رواية تفضح جرائم النظام خلال العشرية السوداء

في مشهد يُجسّد تفاقما مرعبا للقمع في الجزائر، يواصل النظام العسكري الحاكم ملاحقته الشرسة لكل من يجرؤ على كسر جدار الصمت، حتى وإن كان ذلك عبر عمل أدبي.
آخر فصول هذا القمع، إصدار القضاء الجزائري مذكرتي توقيف دوليتين بحق الكاتب الفرنسي الجزائري كمال داود، في خطوة وصفها مراقبون بأنها تصعيد خطير وغير مسبوق في استهداف الإبداع الحر وتدويل حملة إسكات الأصوات المستقلة.
القرار، الذي تزامن مع فوز داود بجائزة “غونكور” الفرنسية العريقة عن روايته الأخيرة «حوريات»، يؤكد أن النظام الجزائري بات يُعامل الأقلام الجريئة كأعداء للدولة، وأن الرواية أصبحت في عرفه جريمة تعادل الإرهاب.
وأكدت وزارة الخارجية الفرنسية، عبر متحدثها كريستوف لوموان يوم 7 ماي 2025، أن القضاء الجزائري أصدر مذكرتي توقيف دوليتين بحق داود. ووصفت باريس الخطوة بأنها “مقلقة”، مؤكدة تمسّكها بحرية التعبير ورفضها لمضايقة الكُتّاب والمفكرين.
في المقابل، لم تُقدّم الجزائر أي تبرير قانوني واضح لهذا الإجراء القضائي الفجّ، بينما تشير تسريبات إلى أن القضية مرتبطة مباشرة بمحتوى رواية “حوريات”، التي كسرت أحد “الطابوهات” الكبرى في الجزائر وهي رواية العشرية السوداء خارج الخطاب الرسمي.
وتلقت محامية داود، جاكلين لافونت، إشعارين عبر الإنتربول في مارس وماي، دون توضيحات قانونية دقيقة. لكنها أكدت أن الدوافع سياسية محضة، وأعلنت الطعن في قانونية المذكرات أمام لجنة مراقبة ملفات الإنتربول، مشيرة إلى أن ما يحصل هو استغلال فجّ للقضاء في تصفية حسابات أيديولوجية مع المثقفين.
وليست هذه المرة الأولى، فالنظام نفسه حكم على الكاتب بوعلام صنصال بالسجن خمس سنوات، في ما وصفه مراقبون بأنه رسالة تخويف موجهة لكل من يحاول إعادة كتابة التاريخ خارج الرواية الرسمية.
رواية كمال داود الفائزة بـ”غونكور” ليست عملا خياليا فقط، بل توثيق أدبي جريء لمرحلة سوداء من تاريخ الجزائر. تروي القصة معاناة إحدى الناجيات من جحيم الإرهاب خلال التسعينيات، مرحلة أودت بحياة أكثر من 200 ألف شخص. غير أن داود، بعكس الخطاب الرسمي، لم يُقدّم صورة مبسّطة بين “الدولة الطاهرة والإرهابيين الوحوش”، بل خاض في مساحات رمادية تُحرج النظام وتُذكّر بمسؤوليته عن مجازر موثقة.
والنتيجة؟ ملاحقات قضائية، اتهامات أخلاقية، تشهير إعلامي، وحملة ممنهجة للنيل من الكاتب داخل وخارج الجزائر.
وفي تطور صادم، استُخدمت عائلة داود نفسها كسلاح ضده، حيث ظهرت شقيقته وسيلة داود على قناة محلية تُهاجمه، في مشهد وصفه حقوقيون بأنه توظيف قذر للعلاقات العائلية في حرب سياسية ونفسية ضد كاتب حر. هذه الأساليب، التي تذكّر بأسوأ فصول الأنظمة القمعية، تُظهر مدى الإفلاس الأخلاقي الذي بلغه النظام الجزائري في تعامله مع معارضيه.
لم يُتهم كمال داود بالتحريض أو العنف أو التخابر. كل “جريمته” أنه كتب… كتب عن الألم. كتب عن المسكوت عنه. كتب رواية تخالف رواية الدولة. وفي بلد يعادي الكلمة الحرة، يكفي أن تكتب لتُطارد كمجرم دولي.
السلطات لم تكتف بذلك، بل دفعت بمنظمة “ضحايا الإرهاب” إلى تقديم شكوى ضده، فيما تُلاحقه امرأة تُدعى سعادة عربان بتهمة “استغلال قصتها دون إذن”. ومع أن داود نفى ذلك وأكد أن القصة “مشهورة في وهران”، إلا أن القضاء تحرّك بسرعة، مدفوعا برغبة سياسية واضحة في تحطيم الرجل.
ما يحدث اليوم ليس حدثا معزولا، بل جزء من سياسة دولة قائمة على عسكرة الثقافة وتجريم التفكير الحر. منذ حراك 2019، تضاعفت وتيرة الاعتقالات والمضايقات بحق الصحفيين والناشطين والمثقفين، وسط صمت عربي ودولي مخجل.
تماما كما حوّل النظام السجن إلى مصير لصنصال، يريد الآن أن يجعل من كمال داود عبرة. في الجزائر الجديدة التي بُنيت على قمع الذاكرة، لا مكان للروائيين، إلا إذا كتبوا للنظام.
قضية كمال داود اليوم تتجاوز حدود الأدب. إنها دليل فاضح على مدى انحدار النظام الجزائري نحو قمع شامل ومتعدد الأوجه. فعندما تصبح الرواية جريمة، والمبدع ملاحقا عبر الإنتربول، فإن الدولة لم تعد تُخفي عداءها للكلمة، بل تُعلنه بوقاحة.
كمال داود ليس مجرد كاتب مطارد. إنه مرآة تعكس خوف السلطة من الحكاية، من الصوت الحر، من الحقيقة التي لا تُروى على لسان الجنرالات.