شكاية الأمير هشام : انقلاب الأدوار ودروس في دولة الحق والقانون

خلّفت شكاية الأمير هشام ضد الناشط الرقمي محمد رضا الطاوجني زلزالا في المشهد العام المغربي، ليس فقط بسبب طبيعتها غير المسبوقة، بل لما أحدثته من انقلاب في الأدوار وإعادة طرح أسئلة جوهرية حول حرية التعبير، المسؤولية، ودولة الحق والقانون. هذه الخطوة، التي فاجأت الكثيرين، دفعت بعض من كانوا يشككون في نزاهة القضاء تحت شعار “حرية التعبير” إلى إعادة النظر في مواقفهم، بل وصل الأمر ببعضهم إلى “بلع ألسنتهم” أو الاصطفاف خلف الأمير في خطوته القانونية. إنها لحظة فارقة تستحق التأمل، ليس فقط لما أثارت من جدل، بل لما كشفت عنه من تناقضات في عقلية الاصطفاف وغياب ثقافة الحوار المسؤول.

انقلاب الأدوار: من النقد إلى الصمت

لطالما اعتاد البعض توجيه سهام النقد للقضاء المغربي، متهمين إياه بالانحياز أو التسييس في كل متابعة قضائية تتعلق بحرية التعبير. لكن شكاية الأمير هشام، التي استندت إلى القانون لحماية كرامته، قلبت الموازين وكشفت عن هشاشة هذه المواقف الانتقائية. فجأة، وجد هؤلاء أنفسهم في موقف محرج: إما الدفاع عن مبدأ الحرية المطلقة الذي طالما رفعوه، أو مساندة خطوة قانونية تحمي كرامة الفرد، حتى لو كان الأمير نفسه. هذا الانقلاب المؤقت في الأدوار يكشف عن خلل أعمق في ثقافتنا السياسية والاجتماعية: غياب مبدأ ثابت يحكم التعامل مع القضايا العامة، وعقلية الاصطفاف التي تجعل المواقف تخضع للهوى والمصالح بدلا من القيم.

تناقض العدميين والطوابرية: ازدواجية في الدفاع عن الحرية

لعل ما كشفت عنه شكاية الأمير هشام هو التناقض الصارخ في مواقف بعض العدميين والطوابرية تجاه حرية التعبير. فعندما تابع وزير العدل عبد اللطيف وهبي الناشط محمد رضا الطاوجني، هاج هؤلاء وماجوا، متهمين الوزير بقمع الحريات وتسييس القضاء، وكأن الحرية لا حدود لها. لكن عندما تقدم الأمير مولاي هشام بشكاية ضد الشخص ذاته، انقلبت المواقف رأسا على عقب، حيث ساندوه بقوة، مدافعين عن حقه في اللجوء إلى القانون لحماية كرامته. هذا الازدواج في المعايير يكشف عن عقلية مريضة تفتقر إلى المبدئية، حيث تتحول الحرية إلى شعار يُستخدم حسب الهوى والمصالح، وليس قيمة ثابتة تحكم الجميع. إن هذا التناقض لا يعكس فقط غياب الاتساق، بل يبرز الحاجة إلى ثقافة قانونية تحترم الحقوق والواجبات على حد سواء.

ازدواجية المواقف: تناقض الأمير مولاي هشام بين الانتقاد واللجوء إلى القضاء

أثار الأمير مولاي هشام، بمواقفه المتناقضة، جدلا لافتا يعكس ازدواجية في الخطاب والممارسة. ففي حوار له مع جريدة “إل كونفيدونسيال”، لم يتوانَ عن توجيه انتقادات لاذعة للأجهزة الأمنية المغربية، منددا بما اعتبره متابعة تعسفية للصحفيين، رغم أن الأحكام الصادرة بحقهم كانت قضائية نهائية وملزمة بقوة الشيء المقضي به. لكن، في مفارقة غريبة، لم يتردد الأمير نفسه في اللجوء إلى ذات القضاء المغربي الذي انتقده، لمتابعة الناشط محمد رضى الطاوجني، في خطوة تكشف تناقضا صارخا بين ما يُعلن عنه من مبادئ وما يمارسه فعليا، مما يطرح تساؤلات عميقة حول تماسك رؤيته وصدقية مواقفه.

دروس من الشكاية: بناء دولة الحق والقانون

إن ما يجب أن يدفعنا للتفكير هو ضرورة مراجعة هذه العقلية الاصطفافية التي تُقسم المجتمع إلى معسكرات متصارعة. شكاية الأمير، بغض النظر عن تفاصيلها، تذكّرنا بأهمية التمسك بدولة الحق والقانون، دولة تتسع للجميع، تحمي كرامة مواطنيها، وتضمن حرياتهم في إطار المسؤولية. فالمجال العام ليس حلبة لتصفية الحسابات أو مساحة يحكمها قانون القوة، بل فضاء يجب أن تنظمه قواعد قانونية واضحة ومحايدة يحتكم إليها الجميع، بغض النظر عن مكانتهم أو نفوذهم.

إن الدفاع عن دولة القانون ليس مجرد شعار، بل ممارسة يومية تتطلب من الجميع -أفرادا ومؤسسات- الالتزام بقيم العدالة والمساواة. فالذين يهاجمون القضاء ليل نهار، أو يروجون لخطاب عدمي يشكك في مؤسسات الدولة، يجدون أنفسهم في حاجة إلى هذا القضاء نفسه عندما تُمس كرامتهم أو حقوقهم. هذا ما كشفته شكاية الأمير: أن القانون هو الملاذ الوحيد الذي يحمي الجميع، سواء كانوا أمراء أو مواطنين عاديين، في لحظات القوة والضعف على السواء.

تحدي العقلية الاصطفافية: نحو حوار مسؤول

إن استمرارنا في الدوران ضمن حلقة مفرغة من الاصطفافات والتجاذبات لن يؤدي إلا إلى مزيد من الاستقطاب والانقسام. ما نحتاجه اليوم هو ثقافة حوار مسؤول، تقوم على احترام القانون، والدفاع عن الحرية في إطار المسؤولية، والاعتراف بأن المجال العام ملك للجميع، وليس حكرا على فئة أو تيار. شكاية الأمير، بما أثارت من نقاش، تمنحنا فرصة لإعادة التفكير في كيفية بناء مجتمع يسوده العدل والمساواة، حيث يُحترم صوت الجميع، ولكن ضمن حدود القانون والأخلاق.

المغرب دولة حق وقانون

في النهاية، تظل شكاية الأمير هشام درسا في أهمية الاحتكام إلى القانون، بعيدا عن العواطف أو الانحيازات. إن المغرب، كدولة تسعى لبناء مؤسسات قوية، يحتاج إلى مواطنين وفاعلين يدافعون عن دولة الحق والقانون، دولة تحمي كرامة الجميع وتضمن حرياتهم في إطار المسؤولية. إن تجاوز عقلية الاصطفاف والتفكير بمنطق “الدنيا دوارة” هو السبيل لبناء مجتمع متماسك، يحمي أفراده في لحظات قوتهم وضعفهم على حد سواء. فلنعمل معا من أجل مغرب يسوده العدل، حيث القانون هو الحكم، والحرية المسؤولة هي الضمان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى