تحقيقات القاسمي | في دولة يحكمها المجرمون من أجل المجرمين.. هشام جيراندو قضية كندية قبل أن تكون مغربية

في الآونة الأخيرة، وبينما كنت أتابع تفاصيل قضية الإرهابي الهارب من العدالة هشام جيراندو، وجدتُني أمام مفارقة تستحق التأمل العميق: كيف يمكن لشخص مدان بالإرهاب والتحريض والتشهير والابتزاز أن يمارس كل أنشطته الإجرامية بكل حرية وطمأنينة من فوق تراب كندا، دون أن تطاله يد العدالة أو يوقفه القانون؟

وعوض أن أعيد طرح السؤال من زاوية مغربية صرفة: لماذا تسمح كندا لجيراندو بالإساءة إلى المغرب ومؤسساته؟ شيء ما دفعني إلى التريث، إلى البحث خارج هذا الإطار المألوف… إلى محاولة فهم الأمور من داخل كندا نفسها.

لقد دخلت في شبه اعتكاف إعلامي، أتابع الصحافة الكندية والرأي العام المحلي، أقلب في تفاصيل القوانين والقرارات والأحكام القضائية، وأصغي لما يقوله الكنديون، لا عن هشام جيراندو، بل عن بلدهم. وهنا كانت المفاجأة.. لكنها متوقعة: هشام جيراندو ليس حالة خاصة ولا استثناءً، بل هو نموذج مكرر لظاهرة تؤرق المجتمع الكندي نفسه. ظاهرة الإفلات من العقاب، والانفلات الأمني، وتراخي المؤسسات في التصدي للجريمة… بل هو نتاج ومنتوج خالص لهذه المنظومة الفاسدة في كندا التي مأسست سيادة الجريمة واللاقانون.

قد يبدو لبعضنا أن كندا هي جنة المهاجرين والحريات والمساواة. وربما يكون هذا صحيحا في جانب صغير جدا منه. لكن إذا أنصتنا جيدا لما يُقال ويكتب في الداخل، سنكتشف أن كثيرا من الكنديين أنفسهم يرون في بلدهم “دولة يحكمها المجرمون من أجل المجرمين”.

A Nation Run By Criminals, For Criminals“. عبارة تتكرر حرفيا في مقالات وتغريدات وتعليقات الصحفيين والنشطاء والحقوقيين.

الأمر ليس مزحة ولا مبالغة. إنه توصيف مرير لواقع تعيشه كندا يوميا، واقع الرضا الضمني عن تآكل الردع، وغلبة منطق “الفرصة الثانية” على مبدأ المساءلة، وتحول بعض المدن الكندية الكبرى إلى ساحات مفتوحة للجريمة المنظمة والعنف السيبراني.

في هذا السياق، يصبح هشام جيراندو مجرد عرض من أعراض داء أعمق. بل لعل السؤال لا يجب أن يكون: لماذا تسمح كندا لشخص مثله بالإفلات من العقاب؟ بل: لماذا باتت كندا، كدولة، عاجزة عن حماية نفسها من نمط متصاعد من الجريمة المنظمة والمتغلغلة في مؤسساتها؟ هذا ما تكشفه التحقيقات الصحفية والجنائية التي أنجزتها هيئات كندية ودولية، والتي تظهر صورة مقلقة عن بلد يبدو في ظاهره مثاليا، لكنه في العمق يترنح أمام تغول شبكات المافيا والفساد وتراخي الردع.

اختراق أمني وسياسي.. الجريمة تسيطر على مؤسسات الدولة الكندية

في بلد طالما تباهى بكونه نموذجا عالميا للشفافية وسيادة القانون، تنكشف اليوم خيوط معقدة لشبكات إجرامية متعددة الجنسيات اخترقت كل القطاعات الحيوية: من أجهزة الأمن والاستخبارات، إلى النظام القضائي، وصولا إلى أكبر البنوك ومشاريع العقارات الفاخرة.

كندا، التي اعتُبرت لفترة طويلة ملاذا آمنا من الفساد المؤسساتي، تجد نفسها الآن في قلب أزمة عميقة يتقاطع فيها الجريمة المنظمة مع الفساد الرسمي والتقاعس السياسي والقضائي.

في عام 2022، صدر تقرير عن خدمة الاستخبارات الجنائية الكندية (CISC) كشف أن 29 عصابة إجرامية منظمة نجحت في اختراق الإدارات الحكومية والهيئات العامة. الأخطر من ذلك، أن 369 مجموعة أخرى كانت تحاول التغلغل تدريجيا في المؤسسات الحكومية الفيدرالية والمحلية، مستفيدة من هشاشة الرقابة وضعف التشريعات الرادعة… ولم تعد هذه الأرقام مجرد تقديرات نظرية، بل انعكاسات حقيقية لوضع خطير بدأ ينذر بانهيار فعلي لجدار الفصل بين الدولة والجريمة.

وفي واحدة من أخطر القضايا التي هزت النظام الأمني الكندي، أُدين كاميرون أورتيس، الرئيس السابق لوحدة الاستخبارات في الشرطة الملكية الكندية (RCMP)، بتسريب معلومات سرية إلى جهات إجرامية، وحُكم عليه بالسجن 14 عاما في فبراير 2024. ولم تكن جريمة أورتيس مجرد تصرف فردي، بل مؤشر على خلل بنيوي داخل الأجهزة الأمنية نفسها. الأدلة أثبتت أن التسريبات لم تشمل فقط معلومات تكتيكية، بل امتدت لتشمل قضايا مرتبطة بعمليات مكافحة المخدرات وشبكات غسيل الأموال عبر القارات.

المقلق أن التحقيقات كشفت أيضا عن محاولات ناجحة لاختراق الشرطة والأجهزة الأمنية من قبل عصابات الجريمة المنظمة وحتى الجماعات المتطرفة، بحسب ما أكده المجلس البرلماني للأمن والاستخبارات (NSICOP) والمفارقة أن الأجهزة التي يُفترض بها حماية البلاد أصبحت هي نفسها مهددة من الداخل.

مع اتساع النفوذ الإجرامي، لم تسلم الطبقة السياسية من محاولات التغلغل. تحقيقات سرية أجراها خبراء إنفاذ القانون في كندا والولايات المتحدة ربطت بين شخصيات سياسية بارزة، من بينهم مسؤولون في الحكومة الليبرالية، وشخصيات محسوبة على مافيات آسيوية حضرت فعاليات جمع التبرعات الحزبية. ورغم عدم توجيه اتهامات مباشرة، فإن مجرد القرب من هذه الشبكات يمثل جرس إنذار على مدى عمق الفساد الذي طال حتى مستويات الحكم العليا.

وقد كشف عدد من كبار مسؤولي إنفاذ القانون، سواء من العاملين حاليا أو المتقاعدين في الولايات المتحدة وكندا، عن مزاعم خطيرة تشير إلى أن الحكومة الفيدرالية الكندية قد تكون قد عرقلت بشكل ممنهج التحقيقات التي تستهدف أعلى مستويات الجريمة المنظمة الآسيوية. ووفقا لهذه المصادر، فإن وكالات أميركية، من بينها وزارة الأمن الداخلي الأميركية، باتت تشعر بقلق بالغ حيال ما تشتبه بأنه فساد وثغرات قانونية في كندا، إلى حد دفعها إلى استبعاد أجهزة إنفاذ القانون الكندية من بعض التحقيقات الحساسة ومنعها من الوصول إلى معلومات استخباراتية مهمة.

كندا موطنا للجريمة المنظمة العالمية واقتصاد الدولة تحت سطوة المافيا

في مقال استقصائي نشره الصحفي براد هنتر بجريدة Toronto Sun يوم 19 أبريل 2025 تحت عنوان: “كيف أصبحت كندا موطنا للجريمة المنظمة العالمية”، يتحدث الخبير العالمي في الجريمة المنظمة أنطونيو نيكاسو عن الوضع الخطير الذي وصلت إليه كندا، حيث أصبحت، حسب تعبيره،  “الميكروكوزم الإجرامي للعالم”، أي صورة مصغرة مثالية لعالم الإجرام.

يقول نيكاسو بهذا الخصوص: “كندا أصبحت مركزا للجريمة المنظمة… إنها مكان منخفض المخاطر وعالي العوائد، حيث يمكن للجريمة أن تزدهر تحت أعين حكومة عاجزة أو متواطئة.”

ويرى نيكاسو أن أحد أبرز أسباب تغوّل المافيا في كندا هو غياب تشريعات رادعة على شاكلة قانون RICO الأميركي، الذي يُتيح محاكمة العصابات الإجرامية ككيانات منظمة وليس فقط كأفراد معزولين.

ويكشف التقرير أن بين 45 و113 مليار دولار تُغسل سنويا في كندا عبر العقارات، البنوك، الكازينوهات والعملات المشفّرة، وهو ما يجعل البلاد منصة تمويل لأنشطة تتراوح من بيع الفنتانيل إلى تهريب الأسلحة.

واحدة من أخطر المعضلات التي تُعزز تغوّل المافيا في كندا، بحسب نيكاسو، هي تردد السياسيين في مواجهة الجريمة المنظمة بدعوى تجنب وصمة العنصرية، قائلا: “تم تصوير الجريمة المنظمة على أنها مسألة إثنية، ما جعل السياسيين يحجمون عن محاربتها. النتيجة: مجرمون يُسيّرون شبكات بمليارات الدولارات دون مساءلة.”

عدالة رخوة ومجرمون بلا رادع.. كندا بلد الإفلات من العقاب

إن كندا تواجه أزمة أمنية متفاقمة، ليس فقط بسبب تصاعد الجريمة، بل لأن نظامها القضائي يبدو عاجزا هيكليا أو رافضا لأسباب مشبوهة، مواجهة هذا الواقع.

وما تعيشه كندا اليوم هو نمط مقلق متكرر وممنهج: مجرمون عنيفون يُمنحون السراح المشروط، معتدون جنسيون يُفرج عنهم بعقوبات رمزية، ومروجون للكراهية عبر الإنترنت ينشطون بكل حرية على التراب الكندي رغم ارتباطاتهم الخارجية، أمثال جيراندو. والرسالة التي تُبعث واضحة: إذا كنت من المجرمين الخطرين، فربما كندا هي المكان المثالي لك.

وإليكم في هذا الصدد وعلى سبيل المثال لا الحصر بعض من أحدث هذه الوقائع التي تتكرر يوميا:

في أونتاريو، تم توقيف قرصان معلوماتي يبلغ من العمر 25 عامًا يُعرف باسم “Waifu”، بعد تهديده لباحثة أمريكية في مجال الأمن السيبراني. هذا الشخص لا يواجه الترحيل إلى الولايات المتحدة بسبب حزم السلطات الكندية، بل نتيجة ضغوط أمريكية. حالة تكشف خمول العدالة في كندا.

في كولومبيا البريطانية (مقاطعة كندية تقع في أقصى غرب كندا)، أُدين رجل بحيازة وتوزيع مواد إباحية لأطفال لا يتجاوز عمر بعضهم تسع سنوات. لكن الحكم لم يشمل أي سجن، بل إقامة جبرية في المنزل. السبب؟ القاضي اعتبر أن “كمية” المحتوى كانت “محدودة نسبيًا”. أي رسالة تُرسل بذلك إلى الضحايا؟ وإلى المعتدين الآخرين؟

وفي سياق متصل، يتم بشكل متكرر إطلاق سراح تجار مخدرات ومجرمين متمرسين على ذمة التحقيق، رغم خطورتهم، بفضل قوانين السراح المؤقت التي أصبحت أكثر تساهلا. في بعض المقاطعات، أصبح عدم المثول أمام المحكمة أمرا متوقعا لا استثنائيا.

هؤلاء يستغلون هامش الحرية في كندا لتقويضه من الداخل، فيما الدولة تغض الطرف. هذه ليست مسألة سياسية. بل مسألة أمن عام وثقة مواطنين. عندما تبذل الشرطة جهدها لاعتقال المجرمين، ثم يأتي القضاء ليطلق سراحهم، فماذا تبقى من هيبة العدالة؟

يبدو أن جزء كبير من القضاة في كندا أصبحوا أكثر انشغالا بـ”إعادة إدماج” الجناة بدل حماية المجتمع. أما المشرّعون، فيغذّون هذا التراخي بإلغاء العقوبات الصارمة، والترويج لقوانين أكثر “رحمة”، حتى مع المجرمين الخطرين، تحت غطاء “العدالة الاجتماعية”. نحن لا نتحدث هنا عن لصوص متاجر صغار أو مستهلكي مخدرات غير عنيفين، بل عن مجرمين يشكّلون تهديدا حقيقيا للأطفال، وللأمن الرقمي، وللسلامة الوطنية. وعندما تفشل الدولة في رسم حدود واضحة، تكون النتيجة واقعية جدا: جرائم متكررة، مجتمعات خائفة، وشعور متزايد بانعدام الثقة.

هشام جيراندو قضية كندية قبل أن تكون مغربية

وسط هذا المناخ الخطير والمقرف، يصبح مفهوما لماذا تحولت كندا إلى ملاذ للفارين من العدالة أمثال هشام جيراندو. فلا عجب أن يُترك هذا الإرهابي الهارب من العدالة يسرح ويمرح، يُهدد ويُشهّر، يبتز وينشر صورا ومعطيات تخص مسؤولين وأفرادا مغاربة دون حسيب أو رقيب.

فالرجل ببساطة يستفيد من بيئة حاضنة لا تراه خطرا، لأنه ليس وحده. البيئة ذاتها سمحت، مثلا، بإطلاق سراح أشخاص أدينوا بتهم خطيرة تتعلق باستغلال الأطفال، أو الانتماء لشبكات مخدرات، أو تبييض الأموال، بدعوى أن “الظروف لا تستدعي السجن”، أو أن “الملف ليس بالحجم الذي يبرر العقوبة القصوى”.

ولكل هذه الأسباب، هشام جيراندو قضية كندية قبل أن تكون مغربية. من هنا، يجب أن نغيّر زاوية الرؤية. صحيح أن جيراندو يجرم في حق مغاربة ومؤسسات مغربية، لكن التهديد الحقيقي هو ما يمثله للمجتمع الكندي نفسه. فكل دولة تستقبل مهاجرين وتمنحهم جنسيتها، تفترض منهم أن يحترموا قيمها المزعومة ويساهموا في تنمية مجتمعها. أما أن تتحول قوانين البلد إلى حصن حماية للمجرمين، وأن يُستخدم جواز السفر الكندي كغطاء لممارسة الابتزاز والتحريض والإرهاب، فهذه مسألة تمس كندا أكثر مما تمس أي دولة أخرى.

لقد آن الأوان لإعادة طرح السؤال بصيغته الصحيحة: لماذا لا تُطرح قضية هشام جيراندو داخل كندا نفسها؟ ولماذا لا تصبح جزءا من النقاش العام حول الفشل المتكرر في ضبط الجريمة وحماية المواطنين؟

إن من مصلحة كندا، كما من مصلحة المغرب، أن تُسائل نفسها عن هشام جيراندو لا كشخص، بل كظاهرة. فهو واحد من أولئك الذين استفادوا من مظلة الحريات، لا ليكونوا مواطنين صالحين، بل ليُمارسوا الإجرام بأمان وطمأنينة… وهو، كما تُظهر الصحافة الكندية كل يوم، ليس وحده. إن ما يجري في كندا اليوم يتجاوز مجرد قضايا فساد متفرقة أو حتى بنيوية. إنه تحول خطير نحو “دولة داخل الدولة”، حيث يفرض الهاربون من العدالة والعصابات الإجرامية قوانينهم داخل مؤسسات الأمن والقضاء والسياسة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى