تسريبات توفيق بوعشرين.. عندما تُسقط الحقيقة سرديات “الجلاد” !

في سياق يتسم بتزايد الوعي العام وارتفاع سقف المطالب بالمحاسبة والشفافية، تأتي تسريبات توفيق بوعشرين لتعيد إلى الواجهة النقاش حول مفاهيم العدالة، واستغلال الإعلام للتأثير على الرأي العام، وحقيقة المسؤولية الأخلاقية تجاه المجتمع. ولقد أصبح تسريب الفيديوهات الموثقة لجرائم بوعشرين الجنسية نقطة تحول رئيسية في هذه القضية، مما يضع حدًّا للجدل الذي طال أمده حول طبيعة الأفعال المرتكبة والاتهامات التي أدين بها.

منذ بداية المحاكمة، اعتمد بوعشرين ومن يدافع عنه على استراتيجية تعتمد على السرية لخلق سردية بديلة تبرئه من التهم الموجهة إليه. فقد صُور المتهم كضحية مؤامرة سياسية، وتم تضليل الرأي العام بمزاعم لا تستند إلى وقائع موضوعية. هذا الغطاء السري لم يحمِ فقط المتهم، بل سمح بأن تتحول قضيته إلى معركة إعلامية تخدم أجندات معينة، بدلاً من التركيز على تحقيق العدالة وإنصاف الضحايا.

ولكن يبقى التساؤل: هل كان من الممكن استمرار هذه السردية لو أُتيحت للناس فرصة الاطلاع على الأدلة التي قدمتها النيابة العامة، خصوصاً الفيديوهات الموثقة التي تم تسريبها مؤخراً؟ الأرجح أن الشفافية كانت ستقلب كل المزاعم رأساً على عقب منذ البداية، وتمنع هذا التشويه المتعمد للحقيقة.

إن ظهور الفيديوهات التي توثق الجرائم الجنسية التي ارتكبها بوعشرين يعتبر نقطة تحول حاسمة في هذه القضية، حيث لم تعد الحقائق مجرد ادعاءات تُطرح في قاعات المحاكم، بل أصبحت أدلة دامغة متاحة للرأي العام. هذه الوثائق، بما تحمله من وضوح وصراحة، أزاحت الستار عن الجرائم التي حاول المتهم ومناصروه التستر عليها، وأكدت بما لا يدع مجالاً للشك أن الجرائم المرتكبة كانت فعلية، وليست مجرد ادعاءات كما زعم البعض.

هنا يجب التوقف عند نقطتين أساسيتين: الأولى هي أن الأدلة المصورة، رغم ما تحمله من صدمة، تضع العدالة في مسارها الصحيح، لأن الرأي العام أصبح أكثر وعياً بحقيقة ما جرى. والثانية أن هذا التسريب لا يسقط فقط آخر ورقات التوت عن المعني بالأمر وعن مناصرين ويفضح كذبهم الصراح والممنهج الذي اعتمدوه مع بوعشرين وملفات أخرى… وإنما يضع حدا نهائيا لمنطق المظلومية والبهرجة الإعلامية البعيدة عن وقائقع القضايا.

فلا يمكن الحديث عن قضية بوعشرين دون الإشارة إلى الدور الذي لعبه الإعلام في تشكيل وجهات النظر حول القضية. منذ اللحظة الأولى، انقسمت وسائل الإعلام بين داعمة للمتهم ومهاجمة للإجراءات القضائية، وبين أخرى تنقل الوقائع بتجرد وموضوعية. هذا الانقسام أضر بالقضية على أكثر من صعيد، لأنه ساهم في خلق بيئة مشحونة بالتشكيك بدلاً من دعم تحقيق العدالة.

إن الإعلام مسؤولية أخلاقية قبل أن يكون أداة لنقل المعلومات. وفي هذه القضية تحديداً، برزت بوضوح حدود المهنية لدى بعض المنابر الإعلامية التي اختارت الترويج لسرديات مشوهة على حساب حقوق الضحايا والعدالة.

محاولة بوعشرين وأنصاره التلاعب بالرأي العام عبر خلق سردية مضللة، سواء بالترويج لوجود مؤامرة سياسية أو بتقديمه كضحية، تكشف عن استهانة واضحة بذكاء المجتمع وقدرته على التمييز بين الحقيقة والافتراء. ولكن، وكما يحدث دائماً، أثبتت الحقائق، وخاصة تلك المدعومة بأدلة ملموسة، أنها أقوى من أي محاولات لتزييف الواقع.

هذه الواقعة تعيد التأكيد على أن اللعب بالحقيقة ليس مجرد عمل غير أخلاقي، بل هو استراتيجية قصيرة الأمد محكوم عليها بالفشل. فالحقيقة، مهما تم طمسها، تظهر دائماً، وتكشف زيف الادعاءات وتضع حداً لكل الأكاذيب.

في النهاية، فإن الكشف عن هذه الفيديوهات، رغم كل ما أثارته من جدل، يُعد انتصاراً للحقيقة ولضحايا الجرائم اللواتي عانين في صمت لفترة طويلة. كما أن هذه القضية تُبرز ضرورة تعزيز الشفافية في الإجراءات القضائية، وضمان عدم استغلال السرية للتلاعب بالمعلومات وتضليل الرأي العام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى