عبد الحميد الجماهري يكتب: عودة هادئة إلى ثلاثية الديوان الملكي، البيجيدي.. وفلسطين!

نشر عبد الحميد الجماهري، مدير نشر جريدة الاتحاد الاشتراكي، في عموده “كسر الخاطر”، لعدد يوم غد الخميس من جريدة الاتحاد الاشتراكي مقالا جاء بعنوان: ”عودة هادئة إلى ثلاثية الديوان الملكي، البيجيدي .. وفلسطين!”، وهذا ما كتبه الجماهري:

“لأول مرة منذ توقيع الأمين العام السابق “للعدالة والتنمية” رئيس الحكومة سعد الدين العثماني، على الاتفاق الثلاثي المغربي الإسرائيلي الأمريكي، يصدر بلاغ عن الديوان الملكي بخصوص مواقف الحزب الذي حضر التوقيع.

يقتضي الأمر التحليل ومحاولة الفهم، وليس بالضرورة إعلان الموقف. وعليه يمكن اعتبار أن بلاغ الديوان الملكي دقيق العبارات شديد اللهجة وواضح الردود، اختص بيان الأمانة العامة الصادر في السبت 4 مارس بِردٍّ انطلق من كون موقف البيجيدي إياه “يتضمن بعض التجاوزات غير المسؤولة والمغالطات الخطيرة، في ما يتعلق بالعلاقات بين المملكة المغربية ودولة إسرائيل، وربطها بآخر التطورات التي تعرفها الأراضي الفلسطينية المحتلة”، والإشارة إلى ربط بيان البيجيدي بالتطورات الأخيرة ، يعني في التقدير وأنه لم يحدث ما يبرره من وقائع مثيرة أو خارجة عن المألوف قام الشعب الفلسطيني بالتنبيه إليها.. والبلاغ أراد في عمقه وضع النقط على الحروف في قضية أساسية تقتضي التأطير ليس حصرا في ما يخص البيجيدي بل كلما كان الأمر كذلك في شوون ذات طابع خاص، باعتبار أن الديوان الملكي سبق له أن وضع الأمور في نصابها عندما نبه حميد شباط في قضية موريتانيا وكان الذي بلغ الرسالة ( بمضمون بلاغ صادر عن الديوان الملكي ) هو نفسه من ترأس اجتماع إصدار بيان الأمانة العامة أي عبدالله بنكيران.

البلاغ، بخصوص السياسة الخارجية طابعه تأطيري، مقابل بلاغات سابقة طغى عليها الطابع الإخباري، كما هو حال الاتصال مع رئيس حكومة إسبانيا أو طابع تأسيسي، كما هو حال الاتفاق الثلاثي المؤسس للتحول في القضية الوطنية وفي العلاقة مع طرفيه الأمريكي ـ الإسرائيلي.

ولقد تضمن البلاغ الصادر عن الديوان الملكي 4 مستويات في الرد:

أولا : التأكيد على سمو التزام المغرب (ملكا وحكومة وشعبا) بالقضية الفلسطينية، وهو التزام وضعها في موضع القضية الوطنية للصحراء، كما أنه نفس الالتزام الذي جعل جلالة الملك يُطْلع الرئيس الفلسطيني على الاتفاق الثلاثي، وعلى مضامينه وآفاقه.. وهو التزام تاريخي سبق تشكيل بعض الأحزاب والتيارات الإيديولوجية، التي تخلق تضادا وهميا بين الانتصار للوطن والانتصار للقضية الفلسطينية في بعض الأحيان وتزعم تراتبية غير موفقة ولا معقولة في هذا الجانب.. ومنه نستخلص بأن العدالة والتنمية لا يمثل الدفاع عن فلسطين كما أن الدولة لا تمثل الطرف المقابل لها، أي الدفاع عن العلاقة مع إسرائيل بل إنها مناسبة للتذكير بأن الجميع على نفس الالتزام بجانب الشعب الفلسطيني، والقضية الفلسطينية وبمصالح المغرب كما تقتضيها تطورات الوضع الدولي… إلخ.

ثانيا: الرفض الحاسم للاستغلال السياسي للقضية واستعمالها في التوازنات الداخلية أو غيرها من الاستحقاقات العابرة، وقد ذكر البلاغ هذا المعنى مرتين على الأقل: مرة عندما شدد على أن الموقف المغربي من حقوق الشعب الفلسطيني الثابت “لا يخضع للمزايدات السياسوية أو للحملات الانتخابية الضيقة”، وثانيا لما رفض مرة أخرى “استغلال السياسة الخارجية للمملكة في أجندة حزبية داخلية ” معتبرا ذلك ” سابقة خطيرة ومرفوضة”.

وفي وضع دولي متقلب لا يحسن بالتيارات السياسية “تجيير” القضايا السيادية على ضوء التموقعات في شطرنج الوضع الداخلي، من زاوية نزاعية!

ثالثا: تأكيد الثابت الدولي للمغرب المتعلق بـتدبير الملك للسياسة الخارجية حيث ورد في البلاغ أن “السياسة الخارجية للمملكة هي من اختصاص جلالة الملك، نصره الله، بحكم الدستور، ويدبره بناء على الثوابت الوطنية والمصالح العليا للبلاد، وفي مقدمتها قضية الوحدة الترابية “.( احترام التعهدات الدولية للمملكة حسب الفصل 42 من الدستور، أو بناءً على الدور المركزي لمجلس الوزراء في صناعة القرار الخارجي للمملكة ).

ولا يمكن فهم هذا الوضوح إلا بالعودة إلى بلاغ الأمانة العامة لحزب البيجيدي .. بالضبط العبارة ذات الصلة التي ” تستهجن ” فيها “المواقف الأخيرة لوزير الخارجية الذي يبدو فيها وكأنه يدافع عن الكيان الصهيوني في بعض اللقاءات الإفريقية والأوروبية، في الوقت الذي يواصل فيه الاحتلال الإسرائيلي عدوانه الإجرامي على إخواننا الفلسطينيين ولا سيما في نابلس الفلسطينية”.

وهي إشارة إلى حدثين اثنين عرفتهما الآونة الأخيرة، الأول يتعلق بالقمة الـ36 للاتحاد الإفريقي في أديس ابابا يوم 18 فبراير الماضي، والتي عرفت شنآنا حول حضور وفد إسرائيلي للجلسة الافتتاحية وجعلت منه الجزائر وجنوب إفريقيا جبهةحرب، والثاني، يتعلق بإعلان المغرب والاتحاد الأوروبي عن اتفاقية ثلاثية تربطهما بإسرئيل، بمناسبة زيارة المفوض الأوروبي للجوار وتوسيع الاتحاد، أوليفيي فارهيليي، لبلادنا في 2 مارس الجاري.

وفي كلتا الحالتين كان التقدير السياسي من طرف الحزب السياسي المعني يوحي كما لو أن إسرائيل بحاجة لدفاع المغرب عنها للتواجد في .. إفريقيا وفي أوروبا!

وفي فهم رد بلاغ الديوان الملكي هناك أمران:
أ : الرد بأن محاولة الدخول من نافذة وزارة الخارجية لم يكن موفقا في تقدير الديوان الملكي، بحيث أعاد بلاغه الأمور إلى نصابها الدستوري بخصوص المسؤولية الحصرية للملك في تدبير السياسة الخارجية للمملكة.

ب: استهجان تقديم وزير الخارجية (بصيغة تقريبية في بلاغ سياسي يحمل خطورة واضحة بالقول “يبدو فيها كما لو أنه يدافع “…)كمدافع عن إسرائيل بدون دليل إثبات سوى العبارة التقريبية، مع تحميله المسؤولية الضمنية لمساندة قوات الاحتلال في مدينة بعينها!

والحال أنه نفس الوزير الذي قدم موقفا مشرفا وعقلانيا قبل البلاغ بأقل من أسبوع، وبعد الحدثين ( الأوروبي والإفريقي المومأ إليهما في بيان الأمانة العامة )عندما “جدد التزام المملكة بالدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني وعدم السماح لاستئناف العلاقات مع إسرائيل بتقويض مسار حل الدولتين وغض الطرف عن سياسة الاستيطان، في سياق أعمال عنف مستمرة شهدتها الضفة الغربية…وقال عند استقبال وزير التنمية الاجتماعية الفلسطينية إن المغرب “ضد الأعمال أحادية الجانب وضد سياسة الاستيطان، وكل الأعمال الاستفزازية التي يمكن أن تمس بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني… “.

رابعا: ومن الغمزات ذات الدلالة العميقة هو التذكير بأن الاتفاق الذي تم في دجنبر 2020، تم فيه”إخبار القوى الحية للأمة والأحزاب السياسية وبعض الشخصيات القيادية وبعض الهيئات الجمعوية التي تهتم بالقضية الفلسطينية بهذا القرار، حيث عبرت عن انخراطها والتزامها به “. ومَنْ يُمكن إخباره قبل غيره إن لم يكن رئيس الحكومة، الموقع على الاتفاق والحزب الذي يمثله وهو أمينه العام سعد الدين العثماني، ومَنْ تكون “الشخصيات القيادية” فيه إن لم يكن هو عبد الاله بنكيران.. الذي يتضح بأنه عبَّر عن انخراطه والتزامه بالاتفاق لمن أخبره به!

ولا يمكن أن نفهم الإشارة إلى”شخصيات” إلا بما يجمل الحديث عن عبد الإله بنكيران نفسه، والذي وقِّع بلاغ الأمانة العامة تحت رئاسته..

ومن هنا، يمكن العودة إلى سياق هذا البلاغ، والذي ربما أراد منه عقل الدولة الحاضر في الشؤون الخارجية، أن يعيد الأشياء إلى أصلها الموافقة على الاتفاقية الثلاثية وحسم أي ازدواجية ـ ولو ظرفية ـ طبعت موقف الحزب الموقع على الاتفاق: فقد طبع موقفه في البداية سلوك التسويغ للقرار والحديث عنه، ثانيا من باب المنزلة بين المنزلتين من باب “فقه المضطر”، والذي يجعل البينة على من يملك القرار، ثم تاليا، التهرب من المسؤولية عن التوقيع قبل إعلان الهجوم عليه بمناسبة وبدون مناسبة…

وإذا كان من حق أي مواطن ومواطنة أو هيئة سياسية أن تعرب عن مواقفها من القضايا التي تهم دولتها وشعبها فإن المطلوب بالنسبة لحزب قاد المؤسسات لعقد من الزمن أن يفضل القنوات المؤسساتية وآليات العمل والمساءلة السياسية المتاحة ديموقراطيا ودستوريا.. وفي هذا الأفق، من شأن بلاغ الديوان الملكي أن يساعد حزب العدالة والتنمية في شخص قيادته على النضج وأخلاق المسؤولية، والانسجام في المواقف، بما يخدم صورة البلاد ويخدم الصف الداخلي خدمة لقضايا الوطن والأمة معا.

والواضح أن بلاغ الـ”بيجيدي” لم يستحضر السياق، الدولي والعربي معا.
من جهة هناك تحديات دولية كبيرة وتحولات عالمية عميقة ذكر البلاغ أبرزها.. في سياق عبارة جامعة مانعة عندما نبه إلى أن “العلاقات الدولية للمملكة لا يمكن أن تكون موضوع ابتزاز من أي كان ولأي اعتبار، لاسيما في هذه الظرفية الدولية المعقدة”… هو يغلق الباب على الخرجات التي قد تسيء إلى وحدة فلسفة الدولة في العلاقات الخارجية، كما يمكن أن يُنضج مواقف الحزب عبر تحريره من الحسابات العابرة … في قضايا ثابتة.

ولم يكن محرر البلاغ في غاية النباهة، في تقدير بلاغ الديوان الملكي، إذ أسقط السياق الإيجابي لصالح المغرب في المحيط العربي، حيث أنه لم يراع المواقف الإيجابية الصادرة عن الفلسطينيين أنفسهم، ومن مواقع شتى. وفي هذا كان عليه استحضار تصريحات وزير شؤون القدس، ومؤتمر دعم القدس رفيع المستوى الذي انعقد منذ أسابيع في القاهرة، وما صدر عن اللجنة الوزارية العربية المكلفة بمواجهة الإجراءات الإسرائيلية في مدينة القدس المحتلة، وإشادة شبكة مستشفيات القدس.. إلخ، وهو جاء ضد موجة تثمين عميقة، لم تستطع حتى القوى التقليدية المعادية للمغرب وقفها والتشويش عليها…

قد تميل القيادات السياسية، في حالة انحسار، إلى الرفع من شعبيتها بضرب ما لديها في المُعامل الفلسطيني للرفع من معدل الدورة السياسية الراهنة!

غير أن بعض القضايا تستعصي على التعامل ” المحاسباتي” وتفرض العقلانية والرزانة والمصلحة الوطنية بكل تجرد وكل وطنية، ومن الخزي الديموقراطي أن يتنكر أي حزب لالتزام وقع عليه باسم البلاد، ولفائدة نزوعات محدودة في الزمان والمكان، علما أن المغرب لا يتردد في إدانة الإجراءات الإسرائيلية التي تمس الشعب الفلسطيني كما ذكرنا أعلاه، وكان على محرر البلاغ، في تقدير العبد الفقير لرحمة ربه الناصح بحسن النية، أن “ينتبه” إليها كما “انتبه” إلى غيرها في السياق الحالي.

هو مجال للوضوح وأخلاق المسؤولية، وليس للعب بمنطق الإثارة، وإلا كان الأولى الانتباه إلى “حزب العدالة والتنمية” … التركي، وتلك قصة أخرى!!”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى