أبو وائل الريفي يكتب: ”محاولات بئيسة لثني المغرب عن الدفاع عن مصالحه الإستراتيجية أمام البرلمان الأوروبي”

أبو وائل الريفي:
أصبحت أجندة المساميم معروفة، وصار تحركُهم لإجهاض كل نصر مغربي متوقع. مشكل الطوابرية دائما هو افتقادهم لأدلة دامغة مما يجعلهم يتبنون كل ما يجدوه في طريقهم لعله يشوش على المغرب والمغاربة.
آخر ما يروجه المساميم هذه الأيام لا يعدو شكوكا يغديها منطق تصفية الحسابات بين الكتل السياسية في البرلمان الأوروبي ويريد البعض استغلالها لجر المغرب إلى ذلك المستنقع بالقوة والتعسف على الوقائع والترويج لتصريحات سياسيين لهم مصلحة في الإساءة للمغرب. تتبع تطورات هذا الملف الذي يشغل بال البرلمان الأوروبي منذ أيام، وطبيعة المنابر الإعلامية التي تصر على إقحام المغرب، وانتماءات واصطفافات الساسة الذين يصرون على إقحام المغرب، وحقيقة الأدلة التي يروجون لها كأدلة اتهام للمغرب تبرز جميعها أن الملف فارغ ودوافعه تصفية حسابات يراد للمغرب أن يدفع ضريبتها.
بدأت تحقيقات البرلمان الأوروبي في شبهات ضد قطر تتهمها باتباع مسالك غير قانونية وأساليب غير أخلاقية للتأثير على برلمانيين أوربيين خدمة لمصالحها، وأفضت التحقيقات إلى إقالة اليونانية الاشتراكية إيفا كايلي التي تشغل نائبة رئيسة البرلمان الأوروبي بتصويت في الجلسة العامة بأغلبية ساحقة بسبب تورطها مع خمسة أشخاص آخرين تم توقيفهم خلال مداهمات نفذتها الشرطة البلجيكية في إطار تحقيق بشبهة الكسب غير المشروع، قبل توجيه اتهامات لأربعة وإطلاق سراح اثنين. إلى هنا تبدو الأمور تتخذ مسارا عاديا، فإقالة نائبة الرئيسة، وهي بالمناسبة نائبة إلى جانب 13 نائب آخر، هو إجراء سياسي لا علاقة له بالاتهام الجنائي الذي له مساطره وطرق التحقيق فيه والجهات المتخصصة التي تتولاه، والنائبة اليونانية تنفي أي علاقة لها بقطر وقطر من جهتها تنفي أي تدخل في عمل البرلمان الأوروبي أو تأثير على عمل نوابه أو أي مخالفات لقوانينه. والحقيقة أن الوضع الطبيعي للتعامل مع هذا الملف هو انتظار نتائج التحقيق البرلماني والقضائي كذلك وحينها يمكن اتهام هذه الجهة أو تلك، مع العلم أن هذا الاستيقاظ المتأخر والمفاجئ للنواب مستغرب وكأنهم كانوا يجهلون ما يحدث من عمل لوبيات في بروكسيل الشهيرة بأنها من أكبر مراكز اشتغال اللوبيات في العالم.
فجأة، وبطريقة متسرعة وغير بريئة، تتداول بعض المنابر الدعائية المعروفة بعدائها للمغرب والمتورطة في حملات سابقة ضده تصريحات لنواب مفادها تورط المغرب كذلك في محاولات إرشائهم للتأثير على مواقفهم وتصويتهم لصالح المغرب في قضايا تهم الصحراء المغربية أو تجديد اتفاقيات الصيد أو حقوق الإنسان.
للوهلة الأولى، يتبادر إلى الذهن سؤال محير عن سبب صمت هؤلاء النواب طيلة هذه المدة عن محاولات إرشائهم، وسبب عدم إخبار المؤسسة البرلمانية لاتخاذ المتعين ضد المغرب في حينه، وسبب عدم إخبار كتلهم السياسية. كما يتبادر إلى الذهن سبب تجنب هذه المنابر الدعائية طرح هذا النوع من الأسئلة عن هؤلاء الصامتين منذ سنين وأسباب اختيارهم لهذا التوقيت بالضبط للإعلان عن وقائع تعود، في حالة ثبوت صحتها، لسنوات ومن المستفيد من ذلك. وكل هذا مع التسليم جدلا أنهم صادقون وجادون في ادعاءاتهم.
الاطلاع على ما ينشر ضد المغرب في كل هذه المنابر تطبعه لغة تتجنب توجيه الاتهام رسميا للمغرب وتلعب على العبارات المسمومة للتدليس على القراء من قبيل “فضيحة ستورط المغرب” و”المغرب مشتبه فيه”. وهذه الصيغ الماكرة والعبارات المخادعة كافية لمعرفة خلفيات من يريد الاصطياد في الماء العكر وجر المغرب إلى مستنقع لا ناقة له فيه ولا جمل.
الأولى لمن يحترم أخلاقيات الصحافة والقواعد المهنية أن يكون حذرا ومتوازنا في هذا النوع مما يسميه أصحابه “تحقيقات” ويستحضر كل وجهات النظر ويكون جريئا في مواجهة كل من يتهم جهة أخرى ويبحث عن أسباب إثارة الاتهامات ضد المغرب من طرف بعض النواب دون سابق إشعار. وللأسف، هذا لم يتم احترامه من طرف هذه المنابر لأنها مصطفة مسبقا في موقع العداء للمغرب الذي يرفض ابتزازها والاستجابة لضغوطها.
والأولى لمن يحترم ذكاء القراء أن لا يتداول اتهامات دون أدلة. والأكيد أن لا أحد عنده معلومات أو معطيات تثبت تورط المغرب في هذه الفضيحة.
وحتى لا نبقى في العموميات، نأخذ مثالا واحدا هو النائب الأوروبي الفرنسي السابق جوزيه بوفيه الذي كال التهم من على منبر إذاعة فرنسا الدولية بدون دليل ضد أخنوش متهما إياه بمحاولة إرشائه بشأن وقائع تعود لسنوات بين 2009 و2014 لما كان وزيرا للفلاحة. الغريب هو صمت جوزيه بوفيه طيلة هذه المدة كلها، واستنتاجاته غير المنطقية التي تتعسف على تصرفات عادية لتأويلها وكأنها محاولة إرشاء، وادعاؤه أن سبب محاولة إرشائه هو معارضته لاتفاق المغرب مع الاتحاد الأوروبي.
يعطي برلماني سابق فاشل صورة غير حقيقية عن قدرته الخارقة التي لم يلمسها الأوروبيون في تجربته البرلمانية السابقة، ويريد الركوب على ملف قيد التحقيق للعب دور البطولة ولو اقتضى الأمر اختراع وقائع من نسج خياله. المطلوب من جوزيه بوفيه بعد تلقيه استدعاء النيابة العامة هو المثول أمام القضاء بعد الدعوى التي رفعها ضده أخنوش وهي فرصة أمامه لإثبات اتهامه للمغرب وقطع الشك باليقين وتقديم خدمة العمر للمساميم وإلا فإنه مجرد مدعي بخلفيات سياسية وبدون أدلة. لننتظر نهاية هذه الحلقة مع رجاء أن لا يتراجع النائب السابق الفاشل عن أقواله ويتعلل هو كذلك بمساطر وشكليات كما تعللت المنابر الدعائية المملوكة للدولة العميقة في فرنسا في فضيحة بيغاسوس التي بينت حقيقتها وكذبها على المغرب ونشرها لاتهامات دون التوفر على أدلة تسندها.
من يطلع على خلفيات ما اصطلح عليه “قطرغيت” يفهم توقيت إثارة هذا الملف وسر هذا التسابق الإعلامي للنشر لتحطيم دول بعينها خدمة لأجندة جهات ألفت الابتزاز ولم تعد تحتمل الفطام. الملف بيد القضاء وعلى الجميع أن ينتظر انتهاء التحقيقات ويحسن قراءة ما ينشر ويفهم ما وراء السطور ويستوعب الحرب التي تخوضها بعض مراكز النفوذ التي تنتعش في مثل هذه الملفات التي تتحكم في وقت إثارتها وطريقة رواجها والجهات المستهدفة منها، واعتادت أن تغلقها كما فتحتها بدون وضع كل جهة أمام مسؤولياتها. يتمنى المغرب صادقا أن يأخذ التحقيق مجراه وينتهي ببسط كل أدلة الاتهام الموجودة عند المحققين للرأي العام وحينها يمكن لكل واحد الحكم على الخروقات القانونية والتجاوزات الأخلاقية والسياسية التي انتهى إليها فريق التحقيق.
لقد كشف هذا الملف حالة الضعف التي تعاني منها المؤسسة التشريعية الأوروبية التي أصبحت أداة للصراع بين الكتل السياسية عوض أن تكون في منأى عن ذلك بما يبقي لها حرمتها. ينكشف يوما بعد آخر أسباب ضعف الاتحاد الأوروبي الذي لم تنفع هيكلته وطريقة اشتغاله في تقويته ودعم وحدة دوله وتماسك مؤسساته، ولذلك فطبيعي أن يكون رهينة للغير وفي حالة تبعية دائمة لأمريكا وخوف من روسيا وحسرة على انسحاب إنجلترا وتحفظ شعوب دول مهمة في الانضمام إليه.
لقد كشف انحياز مؤسسات الاتحاد الأوروبي لأجندات بعض دوله أنه صار سوطا في يدها، وهو ما عشناه طيلة سنين الإعداد للمونديال حيث رأت بعض الدول أن المناسبة لقمة سائغة للابتزاز والاستفادة من صفقات وعطايا وإلا فإنها الحرب الباردة التي توظف فيها بعض الدول هذا الاتحاد للضغط على قطر وغيرها.
المؤسف أن هذا البرلمان الأوروبي هو نفسه الذي يغض الطرف عن استعمال فرنسا لنفس ما يؤاخذون عليه قطر في بناء المنشآت واستغلال العمالة الأجنبية بدون منحها حقوقها. ألم يتأكد أن فرنسا كذلك تستغل المهاجرين غير النظاميين للعمل في المشاريع المخصصة لدورة الألعاب الأولمبية التي ستحتضنها باريس عام 2024؟ ألم يصل إلى علم هذا البرلمان مثلا حجم الأعمال الشاقة التي ينجزها هؤلاء الأفارقة والآسيويون الذين لا يتوفرون على أدنى الحقوق مثل ملابس العمل وأحذية أمان والضمان الاجتماعي؟ دون أن ننسى أن الكثير من أشغال البناء في قطر استعدادا للمونديال كانت تتولاها شركات أوربية أساسا. فلماذا الحملة على قطر والصمت تجاه غيرها؟ ولماذا يهتم الأوروبيون بحقوق غير الأوروبيين ويتجاهلون الخروقات التي تمارس في أرضهم ومن طرف حكوماتهم؟
بهذه الازدواجية تفقد أوربا مصداقيتها لدى شعوبها وتفتح الباب أمام صعود التيارات المتطرفة التي تستفيد من الفراغ والنفاق السياسي الذي صار يطبع سلوك جزء من النخبة التقليدية التي لم تعد تستحضر أخلاق السياسة. ولن يستغرب متابع محايد هذا الصعود لهذه التيارات بعد كل انتخابات في أوربا.
تتحمل فرنسا الماكرونية جزءا من هذه المسؤولية لأنها صارت منشغلة بالتفاهات وتفقد يوما بعد آخر مراكز التأثير التاريخية والتقليدية لفائدة الصين وروسيا، وهو ما جعل الرئيس الأمريكي بايدن يستدرك هذا الفشل الأوروبي، والفرنسي أساسا، لإعادة بوصلة الاهتمام للقارة الإفريقية بعقده قمة قادة الولايات المتحدة وأفريقيا بحضور ما يقرب من 50 من القادة الأفارقة. وللتذكير فهذه هي ثاني مرة تعقد فيها هذه القمة حيث عقدت الأولى سنة 2014 في عهد أوباما.
توقيت هذه القمة وجدول عملها وطبيعة الحاضرين فيها رسالة لأوربا وفرنسا أنها ضيعت القارة الإفريقية وقدمتها هدية للصين وروسيا. وعوض أن تستدرك فرنسا أخطاءها فهي تتمادى في سياستها ولعبها على كل الحبال لجمع المتناقضات ظنا منها أنها تتحكم في دول القارة.
لنتذكر القرار الأحادي الظالم الذي اتخذته فرنسا منذ سنة تقريبا والذي قضي بتخفيض عدد التأشيرات الممنوحة لمواطني المغرب والجزائر وتونس بسبب رفضها إصدار التصاريح القنصلية المطلوبة لعودة المهاجرين المرحلين من فرنسا. يومها رفض المغرب التعليق على هذا القرار، حيث اعتبره شأنا فرنسيا تتحمل فرنسا وحدها تبعاته. فماذا حدث خلال هذه السنة؟
تمسك المغرب بسيادته ولم يغير من مواقفه ونوع علاقاته ولم يظهر أي أثر سلبي للقرار الفرنسي على سياساته العمومية. بالمقابل، اكتشفت الدولة العميقة في فرنسا محدودية أثر قرارها على المغرب فأمعنت في الأخطاء بتسليط أدواتها لاستهداف المغرب، وانفتحت على نظام الجزائر ظنا منها أنها ستثير المغرب لأنها تجهل أن المغرب يرحب بعلاقات جيدة بينهما شريطة أن لا تكون على حساب مصالحه، وانخفضت مصداقية فرنسا عند المغاربة إلى الحضيض وصار التخلص من إرثها في المغرب مطلبا شعبيا لأن المغاربة اكتشفوا مقاربتها الكولونيالية فرفعوا سقف المطالبة بالقطيعة مع إرثها كليا.
الزيارة الأخيرة لوزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا للمغرب وتصريحاتها تجاه المغرب استدراك متأخر للأخطاء التي ارتكبتها فرنسا تجاه المغرب، وتزامنُها مع زيارة مماثلة لوزير الداخلية الفرنسي جيرار دارمانان للجزائر مؤشر على أن فرنسا تتمسك بنفس سياساتها القديمة تجاه المغرب. على فرنسا أن تعلم أن قراراتها الانفرادية تخصها وحدها وكان يمكن أن تتخذها بدون هذه الزيارة، وهذا هو الأصل، لأنها تصحيح لخطأ دفعت ثمنه غاليا من سمعتها في المغرب.
وعلى فرنسا أن تتعلم من هذه التجربة وسابقاتها بأن المغرب يشترط الوضوح والصراحة في الكثير من القضايا ومنها التي تخص وحدته الترابية، ولذلك فمرحلة البياضات والغموض قد ولت ومطلوب من فرنسا موقفا رسميا واضحا وخطوة أكثر تعبيرا تجاه الصحراء المغربية التي نعيد التذكير بأنها النظارة التي ينظر بها المغرب للعالم كله، وما على فرنسا سوى الاستفادة من تجربة ألمانيا واسبانيا لفهم الممكنات المتاحة للمغرب، وعليها كذلك استيعاب أن المغرب دولة مستقلة وذات سيادة وله كامل الحق في الوجود في كل القارة الإفريقية بشراكات مفيدة للقارة ودولها جميعا، وهذا كان التزاما في الخطاب الملكي التاريخي بإثيوبيا.
لن نستبق الموقف من فرنسا وما زلنا ننتظر أثر الزيارة الأخيرة على الواقع في المستقبل القريب، وعندها لكل حادث حديث. وفي انتظار ذلك على فرنسا أن تستوعب أنها بدون افريقيا لا تساوي شيئا، وقد سبق لميتران أن عبر عن ذلك بوضوح حين قال “بدون افريقيا فرنسا لن تملك أي تاريخ في القرن 21”. وقد لاحظ العالم أجمع تركيبة الفريق الفرنسي في المونديال وأصول لاعبيه. لماذا لا تعترف فرنسا بدور افريقيا؟ ولماذا لم تفكر في ترحيل مبابي وغيره لدولهم الأصلية كما تريد فرض الترحيل على دول بخصوص حالات أخرى متورطة في قضايا إرهابية رغم أنها مولودة ومتعلمة ومنَشَّأة في فرنسا؟