هشام جيراندو بين عنتريات المواقع ومرارة الواقع.. تسجيل قضائي يكشف حزم العدالة الكندية وينسف سردية “الاضطهاد” المزعوم

لم تعد قصة هشام جيراندو تستحق حتى وصف الحكاية، لقد تحولت إلى مشهد سقوط متواصل، سقوط رجل يركض داخل وهم صنعه بيديه، ثم يرتطم بحائط الواقع كل مرة كأنه لم يتعلم شيئا، يعيش في فقاعة رقمية يطل منها متعاليا، يتحدث بثقة من فقد كل اتصال بالأرض، بينما الحقيقة التي تفرضها عليه المحكمة تكسر أوهامه كما تكسر زجاجة رخيصة على إسفلت بارد،  فيصبح كل ما يقوله خارج الجلسةمجرد  ضجيج لشخص يهرب من نفسه، وكل ما يحدث داخل الجلسة يكشفه بلا رحمة،مجرد رعديد لا بطولة، لا منطق، لا اتزان، انفصال مرعب بين صورة يصر على طليها بالبطولة وصورة أخرى لا يملك السيطرة عليها، صورة يسقط فيها عند أول مواجهة، سقوطا لا يحتاج محللا ليفهمه بل مجرد عين ترى وتستوعب أن هشام يعيش صراعا لا ينتصر فيه إلا الوهم.

التسجيل الذي سربه بوغطاط لم يكشف فقط تناقض جيراندو، بل نزع عنه آخر طبقة من طلاء البطولة الذي يرشه على نفسه، فذلك الذي ينفخ صدره أمام الكاميرا ظهر في الجلسة متهما مرتبكا يبحث بين الركام عن بقايا خطاباته، يكرر شعارات الاضطهاد والمؤامرة بلهاث فاقد للجدوى، بينما القاضي يمر عليه ببرود تام، كأنما يرى شخصا يحاول ارتداء قناع الضحية بعدما سقط من يده أمام أول ضوء حقيقة.

القانون كان واضحا، والملف كان أبسط من كل صراخه، إهانة المحكمة، خرق الأوامر، نشر تشهير، أما هو فكان يتراجع خطوة بعد خطوة، يجفف ريقه ويبلع كلماته ويحاول أن يقنع نفسه قبل الجمهور أنه مازال ذلك الثائر الإلكتروني الذي يخيف الأنظمة، بينما هو أمام القضاء يبحث عن أي منفذ للهروب، أي صمام أمان يعيد له توازنه المهزوز

ما إن رأى جيراندو النور حتى هرول يصنع فيديو ترقيعي يحاول به رتق صورته المنهارة، حيث ادعى فيه بكل برودة أعصاب أن القاضي أسر له بأن الملف سياسي وأن الإفراج كان بدافع إنساني، وكأنه يعتقد أن العالم كله محشور داخل فقاعته الرقمية ، وأن الحقيقة ستنتظر أوامره قبل أن تتحرك. لكن ما إن ظهر التسجيل حتى انفجرت أكاذيبه في وجهه مثل بالون مثقوب، لا إشارة سياسية، لا كلمة، لا حتى حركة عين يمكنه استغلالها، مجرد فضيحة صافية تكشف كيف يحاول جيراندو صناعة واقع مواز بينما الحقيقة تسحبه من أذنه إلى الأرض.

ولأن كذبة الاضطهاد ماتت، اختلق كذبة أفظع، قال إن القضاء الكندي مخترق، قالها بثقة من فقد صلته بالواقع، كيف يُخترق قضاء جلساته علنية وشفافة، كيف يُخترق نظام لو كان فيه ثقب واحد، لبنى هشام حوله عشرين فيديو في اليوم، لكن حين تضيق الحقائق على صاحب الخطابات الفارغة، لا يجد سوى المؤامرة الكبرى ليختبئ فيها مثل طفل يخاف الظلام.

المثير للشفقة أن هشام كان قبل أسابيع يتملق للقضاء الكندي تملّقا فاضحا، يرفعه إلى درجة القداسة ويقدمه كنموذج للعدالة المثالية، ثم ما إن طُبقت عليه القوانين نفسها التي كان يتغنى بها حتى انقلب خطابه رأسا على عقب، وصار القضاء نفسه فاسدا ومخترقا ومرتشى، تحول في ليلة واحدة، وكأن الرجل لا يملك موقفا بل نوبة، لا يحمل مبدأ بل رغبة، لا يبني قناعة بل اضطرابًا يحاول إلصاقه بالعالم كله.

أشد ما فضحه التسجيل ليس كذبه، بل انفصامه الخطابي، هشام المنصات يصرخ، يهدد، يخطب كأنه محرر الشعوب، هشام المحكمة بالكاد تحمله قدماه، و بالكاد ينطق و يدافع عن نفسه، التناقض بين النسختين ليس اختلافا في السلوك، إنه فجوة عميقة تكشف أن كل ما كان يقدمه هو دور مسرحي تورط في الإيمان به أكثر مما يؤمن به جمهوره.

ولو كان هشام صادقا مع نفسه، لذهب إلى السلطات الكندية فعلا وأبلغهم بما يزعمه عن الاختراقات والشبكات، لكنه لن يفعل، لأنه يعرف أنها مجرد هروب لفظي، مجرد درع وهمي يحتمي به كلما اصطدم بالواقع، يعرف أن كل كلمة يقولها خارج الشاشة لها وزن، وأن كل ادعاء يمكن أن ينقلب عليه، لذلك سيبقى يردد نظرياته في الفراغ، لأن الفراغ وحده لا يسأله، ولا يحاسبه، ولا يضعه أمام الحقيقة.

والحقيقة الآن لا تحتاج محققا ولا محللا ولا خبيرا، الحقيقة مسجلة بصوته، واضحة كضوء النهار، حقيقة أن كل ما كان يرويه مجرد خيال سياسي، وأن كل ما قاله أمام القضاء واقع لا يستطيع حمله، وأن المسافة بين هشام الافتراضي وهشام الحقيقي مسافة كافية لتجعل أي شخص يعيد النظر في كل ما يصدق.

وإن كان هناك شيء واحد يجب أن يواجهه هشام اليوم فهو نفسه، صورته الحقيقية، تلك التي ظهرت في المحكمة، بلا جمهور، بلا شعارات، بلا استعراض، فقط رجل يقف أمام قانون لا يشتريه الصوت العالي، ولا يخدعه الصراخ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى