تحقيقات القاسمي | قمة الإنتربول الـ 93 في مراكش.. لماذا أصبحت التجربة الأمنية المغربية جزءًا من هندسة الأمن الدولي الجديدة؟

تستضيف مدينة مراكش بين 24 و27 نوفمبر 2025 إحدى أبرز التجمعات الدولية في مجال الأمن. فخلال هذه الفترة سيجتمع ممثلو أجهزة الشرطة من 196 دولة في الدورة الـ93 للجمعية العامة للإنتربول – المنظمة العالمية للتعاون الشرطي – لمناقشة سبل تعزيز مكافحة الجريمة العابرة للحدود وتنسيق الجهود الدولية.

وتمثل استضافة المغرب لهذه القمة الأمنية حدثا مفصليا يعكس جهود المملكة لترسيخ نفسها كفاعل مركزي في الحفاظ على الأمن العالمي. فاحتضان هذا الحدث الرفيع المستوى يعزّز سمعة المغرب كشريك موثوق ضمن مجتمع إنفاذ القانون الدولي، خاصة وأن للمغرب سجلا حافلا في تنظيم فعاليات دولية كبرى وتوفير أرضية ملائمة للنقاشات الاستراتيجية حول التهديدات العابرة للحدود وأولويات الأمن المشتركة.

تشمل أجندة القمة ملفات تنظيمية مرتبطة بالبنية الداخلية للمنظمة، وأخرى موضوعاتية تتعلق بالتحديات الكبرى للأمن الدولي. وتأتي في المقدمة مكافحة شبكات الجريمة المنظمة العابرة للقارات، وتعقب مراكز الاحتيال التي تدير آلاف الضحايا في آسيا وأوروبا الشرقية. تشير تقديرات أممية إلى وجود نحو 120 ألف شخص محتجزين في مجمعات احتيال تدير عصابات منظمة، وتستغل الضحايا في تنفيذ عمليات نصب هاتفي واسع النطاق. وقد تعامل المغرب مع أولى القضايا المرتبطة بهذا النمط، حين أحبطت أجهزته محاولة استغلال شباب مغاربة في هذه الشبكات.

كما تناقش القمة سبل تطوير قدرات الإنتربول لمواجهة الجريمة الرقمية، خاصة في ظل تزايد الهجمات السيبرانية على الشركات والمؤسسات الحيوية، إلى جانب مشروع Silver Notice الذي أطلق مطلع 2025 لتجفيف مصادر تمويل الجريمة عبر تتبع الأصول الإجرامية عبر الحدود، بمشاركة 52 دولة. ويطرح كذلك موضوع دعم النساء في أجهزة الشرطة، ورفع تمثيليتهن في مواقع القيادة، إضافة إلى الدفع نحو التصديق على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجرائم السيبرانية من أجل بناء هندسة قانونية دولية موحدة.

تجربة المغرب الأمنية واحترافية أجهزته.. قطب DGSN-DGST نموذجا

خلال العقدين الأخيرين، خطا المغرب خطوات كبيرة جعلته نموذجا إقليميا في إرساء الأمن ومحاربة التهديدات الإرهابية والإجرامية. فبعدما كان يُنظر إليه سابقا كنقطة عبور للشبكات الإجرامية، أصبح اليوم مرجعا إقليميا في الأمن الاستراتيجي ومركزا إقليميا للتعاون المعلوماتي. وكما صرّح المدير العام للأمن الوطني ولمراقبة التراب الوطني عبد اللطيف حموشي في الكلمة التي تلاها خلالأشغال الاجتماع الدولي الثالث عشر لكبار المسؤولين المكلفين بقضايا الأمن والاستخباراتالذي انعقد أواخر ماي الماضي في روسيا: “لم يعد المغرب ملاذا آمنا للمحتالين؛ بل أصبح مركزا أمنيا لهم وقوةً مُهابة في مكافحة الجريمة العابرة للحدود”.

ويعزو المسؤولون هذا التحول إلى سياسة تنمية قدرات الأجهزة الأمنية وتحديثها تكنولوجيا وتعزيز التعاون الدولي. فالمغرب لم يعد يُعتبر الحلقة الضعيفة رقابيا، بل صار شريكا محوريا في احتواء التهديدات، لا سيما بالنسبة لشركائه الأوروبيين الذين يعوّلون على دور الرباط في كبح تسلل الإرهابيين من منطقة الساحل نحو أوروبا.

وتؤكد الإنجازات على الأرض صدقية هذا الدور؛ حيث تكشف الإحصائيات عن عشرات المطلوبين دوليا الذين اعتقلوا في المغرب، وعن تفكيك العديد من الخلايا الإرهابية بفضل عمل استباقي محترف، إضافة إلى إحباط محاولات اختراق حدودية قبل تنفيذها. وكما قال حموشي في نفس الاجتماع بروسيا: “خلف كل اعتقال لمجرم دولي وكل عملية إحباط، يوجد جهاز أمني يقظ يتحرك بروح استباقية وباحترافية عالية”.

هذه المكانة المتميزة للأمن المغربي ارتبطت ارتباطا وثيقا بالنهج القيادي لحموشي، الذي يتولى إدارة كل من المديرية العامة للأمن الوطني (DGSN) والمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني (DGST). هذا التركيز لقيادة المؤسستين في يد واحدة أرسى مقاربة منسجمة للأمن الداخلي والمعلوماتي، وحقق تكاملا غير مسبوق بين عمل الشرطة والاستخبارات.

اعتمد عبد اللطيف حموشي رؤية شمولية تقوم على الابتكار والعمل الاستباقي وتوثيق التعاون وتبادل المعلومات، لكنها تراهن في العمق على الرأسمال البشري بما فيه الحضور النسوي داخل أسرة الأمن الوطني. فحسب المعطيات المتاحة، تجاوز عدد الشرطيات في صفوف المديرية العامة للأمن الوطني خلال السنوات الأخيرة عتبة خمسة آلاف شرطية، موزعات على مختلف الأسلاك والرتب، من عميدات وضابطات ومفتشات ورئيسات دوائر، إلى عناصر تعمل في فرق الجريمة الإلكترونية، والجريمة المالية والاقتصادية، ووحدات مكافحة العنف ضد النساء والمصالح الاجتماعية للأمن.

هذا الحضور لم يعد رمزيا، بل تُرجم ميدانيا في مسار الترقية والمسؤولية؛ إذ استفاد في حصيلة 2024 ما مجموعه 7.513 موظف شرطة من الترقية، بينهم 280 امرأة، ثم ارتفع العدد إلى 10.393 موظفا برسم سنة 2024 المعلن عنها في يناير 2025، من بينهم 466 شرطية، في مؤشر على حرص الإدارة على إدماج النساء في آليات الاستحقاق والترقي بنفس المعايير المطبقة على زملائهن الرجال.

ويواكب هذا المسارَ توجّهٌ واضح نحو إسناد مناصب نوعية للنساء في الميدان، وليس فقط في المكاتب. فالبلاغات الرسمية التي رافقت احتفالات الذكرى 68 و69 لتأسيس الأمن الوطني تحدثت عن “تدعيم الموارد البشرية بالعنصر النسوي” وعن تقلّد المرأة “مسؤوليات ومهام أظهرت فيها قدرات متميزة وكفاءات عالية”، بالتوازي مع صور ونماذج لشرطيات يشتغلن في الشرطة العلمية والتقنية، والشرطة القضائية، والشرطة الدولية، والشرطة الممتطية.

وتُواصلDGSN، بشراكة مع المجلس الوطني لحقوق الإنسان، دورات تكوينية لفائدة الشرطيات والشرطيين المكلفين بحراسة الأشخاص تحت الحراسة النظرية، بما يعزز ثقافة حقوق الإنسان داخل الجهاز ويمنح المرأة الشرطية نفس أدوات التكوين والاحترافية.

بهذه الدينامية، لا يظهر تمكين النساء في الأمن الوطني كخيار تجميلي أو استجابة ظرفية للخطاب الحقوقي، بل كجزء من إعادة هيكلة شاملة للموارد البشرية تقوم على معيار الكفاءة والانضباط، وعلى مبدأ تكافؤ الفرص في التوظيف والترقي وتحمّل المسؤولية، بما يحوّل “الشرطية” إلى فاعل كامل في منظومة الأمن العمومي، وليس استثناءً داخلها.

ولم يتوقف الأمر عند التطوير الداخلي، بل انفتح الأمن المغربي أكثر على المواطنين من خلال مبادرات مثل أيام الأبواب المفتوحة السنوية منذ 2017 لنشر الثقافة الأمنية وتعزيز الثقة مع المجتمع والتي حققت دورتها السادسة (2025)رقما قياسيا غير مسبوق في عدد الزوار، بلغ نحو 2,4 ملايين زائر وزائرة. وعلى صعيد البنية التحتية، أنشأ المغرب معهد الشرطة الدولي في إفران لتدريب أطر أمنية من المغرب ودول إفريقية، كما أحدث مختبرا متقدما للأدلة الجنائية بالدار البيضاء دعمًا لتحديث قدرات التحريات العلمية.

نتيجة لهذه الإصلاحات الجوهرية، تمكن المغرب في غضون أقل من عقد من الزمن من تحقيق سلسلة إنجازات أمنية مهمة. فوفق مؤشر الإرهاب العالمي بات المغرب يُصنف كبلد “معدوم الخطر” فعليا من حيث التهديدات الإرهابية.وقد أشادت تقارير دولية متعددة بفعالية النموذج المغربي في مكافحة الإرهاب والتطرف. إذ نجحت الأجهزة الأمنية في إحباط عشرات المخططات الإرهابية وتفكيك عدد كبير من الشبكات الإجرامية قبل أن تتمكن من تنفيذ مخططاتها.

كما تميّز المغرب بتبنيه مقاربة متعددة الأبعاد في مكافحة التطرف، لا تقتصر على الجانب الأمني الصرف، بل تشمل برامج إعادة تأهيل المتطرفين وإدماجهم مجتمعيا بعد الإفراج عنهم، إلى جانب حملات توعية تستهدف الشباب لتحصينهم من دعايات الجماعات المتطرفة. هذه الجهود الوقائية تعكس حرص السلطات على معالجة جذور الإرهاب فكريا واجتماعيا بالتوازي مع المعالجة الأمنية.

وتجلّت احترافية الأمن المغربي كذلك في قدرته على تأمين أحداث كبرى ونشاطات دولية استضافتها المملكة. فعلى سبيل المثال، لعبت الأجهزة الأمنية دورا حيويا في تأمين الاجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدوليين في مراكش، ومباريات دولية مثل كأس العالم للأندية وكأس أمم إفريقيا للشباب والسيدات التي أقيمت بالمغرب.

كما برز دورها الإنساني مؤخرا إثر زلزال الحوز 2023، حيث سارعت الوحدات الأمنية للمساهمة في عمليات الإنقاذ والإغاثة وحفظ النظام وحماية ممتلكات المتضررين. كل ذلك رسّخ صورة الشرطة المغربية كجهاز عصري ومتفاعل مع مختلف التحديات، ما جعل المدير العام لهذا القطب الأمني يحوز تقديرا واسعا إقليمياودوليا.

المغرب شريك موثوق في هندسة الأمن الدولي

لم يأتِ اختيار المغرب لاستضافة قمة الإنتربول من فراغ؛ ففي الدورة 91 للجمعية العامة للإنتربول المنعقدة في فيينا سنة 2023 صوّتت الدول الأعضاء الـ196 على إسناد تنظيم الدورة الـ93 للمملكة، بعد أن قُدِّم ترشيح مراكش مدعوما بحصيلة المغرب في مكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب.وقد جرى اعتماد الترشيح المغربي بإجماع الحاضرين وبالتصفيق، من دون اللجوء إلى المسطرة التقليدية للتصويت، بعدما سحبت الدول الأخرى عروضها حين تَبيَّن لها أن المغرب مرشح.

هذا الإجماع يعكس اعترافا صريحا بدور المملكة المتنامي في الحفاظ على الأمن الدولي عبر شراكات عابرة للحدود، ويكرّس الثقة في أجهزة الأمن الوطني والمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني التي أصبحت فاعلا أساسيا في منظومة التعاون الشرطي الدولي.

وفي هذا السياق، بات التعاون الأمني الدولي ركنا ثابتا في العقيدة الأمنية المغربية؛ فاختيار مراكش لم يكن مجرد مكافأة سياسية، بل تتويجا لمسار طويل من الانخراط الملموس في عمليات الإنتربول المشتركة وتبادل المعلومات والقيادة النشطة للمبادرات الإقليمية، وهو ما يفسّر حرص الإنتربول على أن تخرج قمة 2025 من بلد يُنظَر إليه اليوم كأحد المراكز الصلبة للأمن في الضفة الجنوبية للمتوسط.

وقد نسجت الرباط علاقات وثيقة مع عدد من الأجهزة النظيرة حول العالم، مبنية على الثقة وتبادل المعلومات والخبرات المشتركة. وتشيد العديد من الدول – خاصة الأوروبية – بدبلوماسية الأمن المغربية ودورها في حماية أمنها هي أيضا. فعلى سبيل المثال، أكّدت إسبانيا مرارا أن اليقظة المغربية أحبطت اعتداءات إرهابية كانت تستهدف الأراضي الإسبانية، إذ قدّم جهاز المخابرات المغربي معلومات حاسمة ساعدت مدريد في تفكيك خلايا متطرفة داخل إسباني.

ولا عجب أن يقوم وزير الداخلية الإسباني مؤخرا بتقليد حموشي أرفع وسام أمني إسباني (وسام الصليب الأكبر للاستحقاق من الحرس المدني) تقديرا لجهوده الاستثنائية في تطوير التعاون الأمني بين المغرب وإسبانيا وفي تحديث أجهزة الأمن المغربية وتفعيل مقاربتها لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، مع الإشارة إلى أن إسبانيا سبق لها أن وشحت السيد حموشي سنة 2014 بوسام “الصلِيب الشرفِي للاستحقاق الأمنِي بتميز أحمر”.

وأشاد المسؤول الإسباني برؤية حموشي التي جعلت المغرب “أحد أكثر بلدان العالم أمنا” وسندا للأمن الدولي. كما أثنت دول أوروبية أخرى على فعالية الشراكة الأمنية مع الرباط، حيث حصد حموشي خلال العامين الماضيين تكريمات رفيعة من فرنسا (منح أوسمة في 2024 و2025 وقبلها في 2011) ومن مجلس وزراء الداخلية العرب (وسام الأمير نايف للأمن العربي من الدرجة الأولى) تقديرا لإسهاماته.

وتصف وسائل إعلام دولية المسؤول الأمني المغربي بأنه رجل المهام الصعبة الذي نجح في بناء نموذج أمني يحتذى، إذ تمكن من إرساء دبلوماسية أمنية نشطة جعلت رؤساء الـFBI والـCIA في الولايات المتحدة وكبار مسؤولي الاستخبارات في أوروبا وغيرهم يتعاملون معه كشريك موثوق.

ومن ثمار هذه الثقة الدولية بالمغرب إطلاق مبادرات ومشاريع أمنية مشتركة تعزز الأمن الإقليمي. فعلى سبيل المثال، أقام المغرب وإسبانيا مراكز تعاون أمني لتبادل المعلومات العملياتية بشأن الجريمة المنظمة، شملت مكافحة شبكات تهريب المخدرات والمؤثرات العقلية.

وفي مجال الأمن السيبراني، لم يعد دور المغرب مقتصرا على تحديث بنياته الداخلية، بل تجاوز ذلك إلى القيادة الإقليمية والدولية داخل الأطر متعددة الأطراف. فإلى جانب برامج التعاون الثنائي، برزت المملكة خلال السنوات الأخيرة كفاعل أساسي داخل المنظمات المتخصصة في مكافحة الجريمة المعلوماتية.

ففي 5 يونيو 2025، جرى بمقر منظمة الإنتربول بمدينة ليون الفرنسية انتخاب عميد الشرطة الإقليمي ليلى الزوين، رئيسة مصلحة مكافحة الجرائم المرتبطة بالتكنولوجيات الحديثة بالمديرية العامة للأمن الوطني، في منصب “نائبة رئيس الفريق الدولي لخبراء الإنتربول في مجال الجرائم السيبرانية”. وتم انتخابها خلال الاجتماع السنوي الأول لهذا الفريق (4–5 يونيو)، الذي شكّل لحظة تأسيسية في هيكلته التنظيمية. وقد أُسندت إليها مهمة قيادة محور “التمكين (Autonomisation)”، الذي يشمل وضع الآليات التقنية والمساطر القانونية الرامية إلى تمكين الضحايا من وسائل الحماية الرقمية، وتزويد أجهزة الشرطة العالمية بالقدرات اللازمة للتحقيق في الجرائم الإلكترونية، وهو اعتراف صريح بقدرات المديرية العامة للأمن الوطني على المستوى الدولي.

ويأتي هذا الحدث بعد سلسلة من الإنجازات الأخرى؛ إذ انتُخب المغرب في نونبر 2024 نائبا لرئيس الإنتربول عن قارة إفريقيا، ممثلا في شخصوالي الأمن محمد الدخيسي، المدير المركزيللشرطة القضائية بالمديرية العامة للأمن الوطني، وذلك بتصويت 96 دولة، في ما يشكّل أحد أعلى معدلات التأييد داخل المنظمة. وقد اعتُبر هذا الانتخاب تتويجا لمجهودات المغرب في مكافحة الجريمة العبر حدودية وتعزيز الأمن الجماعي.

على المستوى العملياتي، لم يقتصر دور الأجهزة الأمنية المغربية على تطوير الأطر القانونية والمؤسساتية، بل انخرطت في عمليات دولية نوعية ضد الاحتيال والابتزاز الرقمي. ففي ماي 2023، قادت السلطات المغربية، بتنسيق مع الإنتربول وMicrosoft وGroup-IB، عملية Operation Echoes التي استهدفت شبكة استعملت عدة نسخ من phishing kit خاص بـ Microsoft 365 لمهاجمة آلاف الضحايا، حيث كان يتم الاستيلاء على معطياتهم الولوجية والمالية ثم تسييلها أو بيعها في الدارك ويب، في واحدة من أكبر الضربات الموثقة ضد الاحتيال الإلكتروني في المنطقة.

وقبل ذلك بسنتين، أعلنت منظمة الإنتربول عن توقيف المشتبه به المعروف باسم Dr Hex في المغرب، بعد تحقيق مشترك دام سنتين شاركت فيه الشرطة المغربية وشركةGroup-IB، على خلفية تورطه في حملات تصيّد احتيالي، واختراق بطائق بنكية، وتشويه (defacement) مواقع إلكترونية عبر العالم.

داخليا،عززت المديرية العامة للأمن الوطني آليات استقبال ومعالجة شكايات الضحايا بإطلاق منصة E-Blaghا لمخصصة للتبليغ عن الجرائم السيبرانية، بما فيها الاحتيال المالي والابتزاز الجنسي عبر الشبكة، مع إسناد ملفاتها إلى مصلحة متخصصة في الجرائم المرتبطة بالتكنولوجيات الحديثة.

وعلى الصعيد الدولي، تحوّلت DGSN إلى شريك موثوق في ملاحقة المطلوبين في قضايا الجرائم المالية الرقمية؛ إذ سبق أن أوقفت، في عمليات متفرقة، فرنسيا مبحوثا عنه من طرف السلطات الأمريكية في قضية cybercriminalité ضد شركات أمريكية، وبريطانيا يُعد من بين أكثر الفارّين المطلوبين في قضايا escroquerie informatique وfraude boursière، قبل تسليمهما للسلطات المختصة بناء على نشرات حمراء للإنتربول وتبادل معلومات مع أجهزة الأمن في تلك الدول. هذه الوقائع الملموسة تبيّن أن المغرب لا يكتفي بتأمين مجاله الرقمي الداخلي، بل يساهم فعليا في سلسلة الردع الدولية ضد الاحتيال المالي والابتزاز السيبراني.

هذه المعطيات تكشف أن المغرب لم يعد يكتفي بموقع “الملتحق” في هذا الحقل، بل أصبح طرفا منشئا للمعايير وفاعلا في صياغة السياسات الخاصة بمكافحة الجريمة الإلكترونية داخل الإنتربول. ويُترجم ذلك مستوى النضج الذي بلغته هياكل الشرطة المغربية المتخصصة في الجرائم السيبرانية، وقدرتها على الجمع بين التتبع التقني المتقدّم، والتحقيق الميداني، والتعاون الدولي متعدد الأطراف.

وخلال تنظيم قطر لكأس العالم 2022، كان التعاون الأمني المغربي-القطري لافتا، حيث ساهمت الفرق المغربية في تأمين المونديال مما برهن فعالية خبراتها تحت قيادة حموشي. وكذلك الأمر بالنسبة للتنسيق المغربي-الفرنسي في التحضير لأولمبياد باريس 2024، الذي شهد تناغما أمنيا لحماية هذا الحدث العالمي. ولم يقتصر الدور المغربي على جواره الإقليمي، بل امتد إلى التعاون مع دول بعيدة مثل سريلانكا، حيث تبادل الجانبان المعلومات الاستخباراتية للاستباق وإحباط مخططات إجرامية قبل وقوعها.

على الصعيد الإفريقي، عزز المغرب موقعه كمركز إقليمي للتدريب وبناء القدرات الأمنية. فمنذ افتتاح مكتب برنامج الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب والتدريب في إفريقيا بالرباط في أكتوبر 2020، تم تدريب أكثر من 1000 مسؤول من 34 دولة إفريقية على يد خبراء مغاربة ودوليين. وقد أشادت الأمم المتحدة بهذه الشراكة التي تعكس دور المغرب كمنصة إقليمية لتعزيز قدرات مكافحة الإرهاب في إفريقيا.

واستضاف المكتب الأممي في المغرب أربع دورات لرؤساء أجهزة مكافحة الإرهاب الأفارقة ضمن ما يعرف بـ”منصة مراكش” للتشاور وتنسيق الجهود القارية. ويصف المسؤولون الأمميون مكتب الرباط بأنه حجر الزاوية في استراتيجية الأمم المتحدة لإرساء جهود مستدامة ومنسقة لمكافحة الإرهاب في إفريقيا. ولا شك أن احتضان المغرب لهذا المكتب – الأول من نوعه في القارة – جاء نتيجة الثقة الدولية في خبرات المملكة والتزامها بنهج متعدد الأطراف لتحقيق الاستقرار الإقليمي.

المغرب وصناعة أمن المستقبل في مواجهة تحديات العصر

رغم النجاحات التي حققها المغرب أمنيا، فإن التحديات الأمنية بطبيعتها متجددة وتتطور باستمرار. ومع التوافق الدولي في قمة مراكش على أبرز الملفات الأمنية، تبرز الحاجة إلى رؤية مستقبلية لتعزيز الأمن الجماعي. وفي هذا السياق، يتطلع المغرب إلى مواصلة تحديث استراتيجياته الأمنية بحلول مبتكرة. فقد أطلق بالفعل الاستراتيجية الوطنية للأمن السيبراني 2030 لمواكبة التهديدات التقنية المستجدة، ويعمل على تعزيز موارده وأدواته في مواجهة الإرهاب باعتباره أحد أولوياته الرئيسية.

إن القدرة على التكيّف مع التهديدات المتطورة تمثل أحد أسرار النجاح المستمر للنهج الأمني المغربي، وهي قدرة تعتزم المملكة تنميتها عبر الاستثمار في التكنولوجيا المتقدمة (كالذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة) لتطوير أساليب الاستباق والرصد. كما سيظل تحديث الإطار القانوني محورا مهما، سواء عبر الإسراع بالمصادقة على الاتفاقيات الدولية (مثل اتفاقية مكافحة الجرائم السيبرانية) أو عبر تحديث القوانين الوطنية لمكافحة الجرائم المستحدثة.

إقليميا، ينتظر المغرب دور أكبر في تبادل الخبرات وبناء القدرات داخل إفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط. فمن خلال مراكزه التدريبية وشراكاته الثنائية، يستطيع المغرب الإسهام في رفع كفاءة الأجهزة الشقيقة في دول الجوار، بما يعزّز المناعة الجماعية ضد الإرهاب والجريمة المنظمة.

وقد أظهرت التجربة أن تكاتف الجهود الإقليمية يثمر نجاحات ملموسة؛ ففي حملة منسقة تحت مظلة الإنتربول هذا العام تم توقيف 1,209 مشتبه به في جرائم سيبرانية على امتداد إفريقيا، وضُبطت أموال وممتلكات غير مشروعة بقيمة تناهز 97 مليون دولار. مثل هذه العمليات تؤكد أن التعاون العابر للحدود لم يعد خيارا بل ضرورة أمام تحديات تتخطى قدرات أي دولة بمفردها.

دوليا، ترسخ المغرب موقعه كشريك موثوق يساهم في بناء هيكل أمن جماعي أكثر شمولا وإنصافا. وقد شدد حموشي في المنتدى الأمني بموسكو (ماي 2025) على أن تحقيق أمن جماعي فعّال يتطلب شراكة متكافئة وتعاونا وثيقابين جميع الأجهزة الأمنية عبر العالم، يقوم على التبادل الفوري والآمن للمعلومات ومبدأ المسؤولية المشتركة.

هذه الرؤية المنفتحة التي تتبناها الرباط تدفع نحو إشراك دول الجنوب كمساهمين فاعلين في منظومة الأمن الدولي، عوضا عن بقائهم على الهامش. وقد تبنى المغرب نهج “رابح-رابح” في التعاون الأفقي، مبتعدا عن الأنماط الأحادية الجانب، ومؤكدا أن أمن أي دولة لا يتحقق بمعزل عن أمن الآخرين. وكما جاء على لسان حموشي: “لا أمن حقيقيا بدون أمن مشترك ومتقاسم” – وهو شعار يعكس الفلسفة المغربية في التعاون الأمني الدولي.

وفي الختام، تُظهر تجربة المغرب الأمنية أن الاحترافية المحلية يمكن أن تصنع فارقا دوليا. فالمملكة التي نجحت في تأمين جبهتها الداخلية وتحصينها، باتت اليوم فاعلا مرموقا يُعوَّل عليه في منظومة الأمن الإقليمي والدولي. واستضافة قمة الإنتربول في مراكش هي تتويج لهذا المسار وإقرار عالمي بنجاعة النموذج المغربي.

بيد أن هذا التكريم الضمني يضع أيضا على عاتق المغرب والمسؤولين الأمنيين فيه مسؤولية كبرى: مواصلة الريادة عبر الاستمرار في التطوير والتأقلم مع التهديدات المستجدة، وتعزيز جسور التعاون والثقة مع الشركاء، ونقل المعرفة والخبرة للدول الشقيقة التي تكافح لترسيخ أمنها. وبهذا الإصرار الجماعي، يمكن جعل الأمن الإقليمي والدولي أكثر حصانة في مواجهة مخاطر القرن الحادي والعشرين، وتحقيق الرؤية التي تنادي بها قمة مراكش: عالم أكثر أمناعبر الشراكة والتضامن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى