من الزليج الفاسي إلى التوظيف المزيف لمصطلح “الزلايجية”.. هكذا قادت الجزائر حملات رقمية “مسعورة” للسخرية من النجاحات والإنجازات المغربية

في ظل الانسداد السياسي والركود الاجتماعي الذي يطبع المشهد الجزائري منذ سنوات، وجد النظام نفسه أمام مأزق داخلي متفاقم لا يملك حلولًا حقيقية له. ولأنّ أسهل الطرق للهروب من الفشل هي خلق عدوّ خارجي، اختار النظام العسكري تحويل أنظاره نحو المغرب، في محاولة لتصدير أزماته بدل مواجهتها. وهكذا، ومع عجزه عن مجاراة الإصلاحات الاقتصادية والنجاحات الدبلوماسية التي حققتها المملكة، لجأ إلى سلاحٍ جديد من نوعه، حملات رقمية ساخرة تستهدف الهوية المغربية ورموزها الثقافية، وكان أبرزها مصطلح “الزلايجية”، الذي تحوّل تدريجيًا إلى شعارٍ للسخرية من كل ما هو مغربي.
ظهر هذا المصطلح في عام 2019، عقب الحراك الشعبي الذي هزّ أركان النظام الجزائري وكشف هشاشته أمام مطالب التغيير. ومع انحسار الحراك وتراجع صوت الشارع، تحوّلت بوصلة النظام الإعلامية نحو الخارج، لتبدأ مرحلة جديدة من صناعة العداء. ومن هنا، برزت حسابات إلكترونية موجّهة تستعمل كلمة “الزلايجية” بأسلوب تهكّمي لتصوير المغاربة كشعب مولع بالمظاهر والزخرفة. وسرعان ما غادر المصطلح مجاله التراثي الضيق ليصبح أداة سياسية لتقزيم كل نجاح مغربي، أياً كان مجاله.
ومع كل إنجاز يحققه المغرب، تتجدد هذه الحملات كما لو كانت رد فعل تلقائي. فعندما بلغ “أسود الأطلس” نصف نهائي كأس العالم سنة 2022، غزت مواقع التواصل الاجتماعي الجزائرية تعليقات تسخر من الإنجاز وتصف المغاربة بـ“الزلايجية” الذين يحتفلون بما لا يستحق الاحتفال حسب وصفهم . وبعدها بعامين، تكرّر المشهد عقب فوز المغرب بكأس العالم للشباب سنة 2025، ليتحوّل الفخر الوطني المغربي إلى مادة للتنمر. وحتى في لحظة إعلان توسيع شبكة القطار فائق السرعة “البُراق”، الذي يُعد أحد أبرز مشاريع البنية التحتية في إفريقيا، لم تتردد تلك الحسابات في التقليل من شأنه، واعتباره مجرّد استعراضٍ بلا مضمون. وهكذا، تحوّل التهكم إلى سياسة ناعمة لتقويض كل ما يُعبّر عن النجاح المغربي، وتحويل الثقة بالنفس إلى تهمة.
رغم أن بعض التعليقات الساخرة على منصات التواصل الاجتماعي قد تبدو في ظاهرها مجرد “مزحة ” عابرة، إلا أنها تخفي في طياتها خطابًا أخطر بكثير. فعندما تتكرر الإهانات في قالب فكاهي، تتحول تدريجيًا إلى أمر معتاد ومقبول في الوعي الجماعي، خاصة لدى فئة الشباب التي تستهلك هذا النوع من المحتوى دون حماية فكرية كافية.
هذا النمط من السخرية لا يأتي من فراغ، بل يبدو جزءًا من استراتيجية إعلامية غير معلنة تُسهم في تعميق مشاعر العداء تجاه أطراف معينة، وصرف الأنظار عن أزمات داخلية حقيقية يعاني منها المجتمع، مثل تفشي الفساد، وارتفاع نسب البطالة، وتراجع الحريات العامة. بهذه الطريقة، يُعيد النظام الجزائري إنتاج سياسة “العدو الخارجي”، ولكن بصيغة جديدة تتناسب مع العصر الرقمي.
ومع ذلك، لم يقتصر تداول مصطلح “الزلايجية” على المنصات الجزائرية فحسب، بل انتقل إلى بعض الصفحات المغربية وحسابات المؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي، أحيانًا دون وعي بمصدر الكلمة وسياق استخدامها السياسي. فاستعمال المصطلح بشكل عفوي أو ساخر من طرف هؤلاء قد يساهم، حتى وإن عن غير قصد، في إعادة إنتاج الخطاب العدائي، مما يمنح المصطلح مزيدًا من الانتشار والتداول ويطمس الحدود بين السخرية الثقافية البريئة والتحريض الرقمي الموجّه.
وفي مقابل هذا الخطاب الموجّه، يظل الزليج المغربي شاهدًا حيًّا على عبقرية حضارةٍ صنعت الجمال من الطين. فمنذ قرون، برع الحرفيون المغاربة في تحويل الزليج إلى فنّ هندسي متكامل يجمع بين الجمال والدقة والرمزية، خاصة في مدينة فاس التي كانت مهد هذا الإبداع الفريد. ولم يكن الزليج مجرد زخرفةٍ معمارية، بل لغةً جمالية تعبّر عن روح الجمال الإسلامي ودقة الصناعة المغربية. واليوم، تحوّل هذا التراث إلى قطاعٍ اقتصادي حيوي يشغّل آلاف الحرفيين ويساهم في صادراتٍ تدرّ ملايين الدراهم، ليبقى شاهدًا على تطور الحرف مع الحداثة.
ولا يقف الإبداع المغربي عند حدود التراث، بل يمتد إلى الحاضر الذي تبنيه المملكة بخطى واثقة. فالمغرب اليوم قوة اقتصادية صاعدة في إفريقيا بفضل مشاريع كبرى تحت قيادة الملك محمد السادس، مثل ميناء طنجة المتوسط وميناء الداخلة الأطلسي، وشبكة “البُراق” التي تربط المدن الاستراتيجية وتختصر المسافات بين الشمال والجنوب. كما يقود المغرب جهودًا رائدة في مجالات الطاقة المتجددة والصناعة والزراعة، ويحقق حضورًا متزايدًا على الساحة الدبلوماسية والرياضية. هذه المنجزات لا تثير الإعجاب فحسب، بل تثير أيضًا غيرة نظامٍ يكتفي بالمقارنة بدل المبادرة، وبالتهكم بدل التخطيط.
من هنا، يمكن القول إن مصطلح “الزلايجية” ليس مجرد تعبير ساخر، بل انعكاسٌ لأزمة هوية يعيشها النظام الجزائري، الذي لم يجد في مواجهة فشله سوى تقزيم نجاح الآخرين. أما المغرب، فقد اختار طريق البناء والعمل الهادئ، مستندًا إلى وعيٍ مجتمعيٍّ يدرك أنّ الرد على السخرية يكون بالإنجاز، لا بالكلمات.
وفي النهاية، يبقى الزليج المغربي رمزًا للجمال المتجذر في التاريخ، بينما يظلّ مصطلح “الزلايجية” مجرّد زوبعة رقمية عابرة سرعان ما تتلاشى أمام صلابة الإبداع وصدق العمل. فبين من يبني بقطع الزليج ومن يكتفي بالسخرية منها، يتضح بجلاء من يصنع الحضارة ومن يهرب من واقعه بالتهكم.



