احتجاجات GENZ212… واجهة شبابية جديدة لمخططات قديمة وصناعة جبانة لسُخط وهمي

الاحتجاجات التي جرى الترويج لها يومي 27 و28 شتنبر لم تكن حدثا معزولا، بل أعادت إلى الأذهان تكتيكات قديمة عرفها المغرب خلال سنة 2011. آنذاك، تم تسويق “حراك شبابي” عبر الشبكات الاجتماعية، بينما كانت القوى الحقيقية المحرّكة ـ مثل جماعة العدل والإحسان وبعض الدوائر الإخوانية ـ تدير المشهد من الخلف دون أن تتحمل تبعات النزول إلى الشارع.

اليوم، تتكرر الصورة بشكل يكاد يكون مطابقا: مجموعات مغلقة على “ديسكورد” ووسائل التواصل تنفخ في نار الغضب، وتغذيه بمقاطع قديمة ومفبركة لإيهام الناس بوجود مدّ شعبي، فيما القوى الفعلية تبقى في الظل، محافظة على عائلاتها وأبناءها بعيدا عن المخاطرة، تاركة الشارع ليواجه وحده تبعات المواجهة مع القانون.

إن الذين يروّجون لهذا النوع من الحملات يحاولون دائما تقديم أنفسهم كـ”جيل جديد” من الشباب الرقمي أو النشطاء المستقلين، بينما الواقع يكشف أنهم مجرد واجهة لدوائر قديمة لها خبرة في “صناعة السخط”. فالجماعات الإسلامية التي انسحبت تكتيكيا من الميدان، لم تغب عن اللعبة، بل وجدت في الفضاء الافتراضي مجالا مثاليا لبث خطابها التحريضي دون أن تظهر للعلن.

الهدف لم يكن تحسين أوضاع اجتماعية أو معيشية بقدر ما كان ـ كما في 2011 ـ هو ضرب السلطة في عمقها وتجريدها من مشروعيتها، عبر تصوير الدولة كجدار واحد صلب لا يُصلح بل يجب هدمه. هذه الاستراتيجية تجعل الاحتجاج يبدو وكأنه مبادرة تلقائية، بينما هو في الحقيقة صناعة موجهة: إعادة تدوير لمقاطع محلية محدودة، تضخيمها، وربطها بخطاب يشيطن الدولة ويصوّرها كعاجزة عن الاستجابة لمطالب المواطنين.

الخطورة هنا لا تكمن في حجم المشاركة الميدانية ـ التي كانت محدودة جدا ـ بل في نوعية الخطاب المصاحب لها. فهو يقوم على صناعة شعور دائم بالظلم والخذلان، يقابله تضبيع يفرغ الجمهور من قدرته النقدية، ليصبح متلقيا سلبيا يردد ما يسمع دون تحقق أو تدقيق. إنها نفس الوصفة التي استُعملت في تجارب دولية عديدة: من “مواطني الرايخ” في ألمانيا إلى ميليشيات “بوغالو” في أمريكا، حيث يبدأ المسار بخطاب عدائي ضد المؤسسات وينتهي بمحاولات عنف وتمرد مسلح.

الظاهرة ليست معزولة عن سياق عالمي. تجارب عدة أثبتت أن أخطر التهديدات لم تعد تأتي فقط من الإرهاب التقليدي أو الجريمة المنظمة، بل من حركات تسعى إلى نزع الشرعية عن الدولة وتفكيك ثقة المواطنين فيها. في الولايات المتحدة، كندا، وألمانيا، تحولت جماعات “معاداة السلطة” إلى مصدر تهديد داخلي يفوق أحيانا خطر التنظيمات الجهادية، لأنها تبدأ بالكلمة وتنتهي بالفعل العنيف.

في المغرب، يمكن رصد محاولات مماثلة تستهدف بث شعور عام بأن الدولة عاجزة أو متآمرة، عبر مفاهيم عدمية تحريضية يروّجها بعض الوجوه المعروفة في الداخل والخارج. تتغذى هذه الخطابات من “صناعة السخط”، حيث يُعاد تدوير الغضب الشعبي في قوالب تبسيطية، لتقديم المؤسسات وكأنها بلا معنى أو مشروعية. ويوازيها “التضبيع” الذي يحوّل الجمهور إلى متلقٍ سلبي، يعيد ترديد ما يسمع دون نقد أو تمحيص.

المثير أن أبرز الأصوات المحرّضة لا تتحرك من قلب الساحة المغربية، بل من الخارج: من باريس إلى بروكسيل، ومن جنيف إلى كندا، يجلس عدد من المتآمرين وراء الشاشات لإطلاق النداءات وإذكاء الغضب. المفارقة أنهم يبعدون أبناءهم وعائلاتهم عن أي مشاركة ميدانية، بينما يسعون إلى الزج بأبناء المغاربة في مغامرات قد تنتهي بعنف أو محاكمات.

إنها صورة واضحة لاحتجاج “عن بُعد”، حيث يتولى الخارج إنتاج الشعارات والتحريض، بينما يُترك الداخل يواجه العواقب.

ولأن التجارب الدولية أثبتت أن كل فعل عنيف يبدأ بخطاب عدائي يجرّد المؤسسات من مشروعيتها، فإن ما يُزرع اليوم في الفضاء الرقمي قد يتحول غدا إلى تهديد فعلي إذا لم يُواجه بالوعي والتحصين القانوني.

الرهان الحقيقي اليوم هو عدم ترك هذا الفراغ مفتوحا أمام تجار السخط. المطلوب ليس تقييد حرية التعبير، بل صونها من التحول إلى غطاء للفوضى. وهذا يقتضي إعلاما مهنيا يفضح التضليل، وتربية رقمية تُمكّن الشباب من التمييز بين النقد المشروع والدعوات التخريبية، وإطارا قانونيا يردع من يتعمد صناعة الفوضى تحت مسمى الحرية.

فالاحتجاج الحقيقي لا يقوم على الكذب والتحريض، ولا على الزج بالآخرين في المجهول، بل على احترام القانون والمؤسسات والسلم الأهلي. كل ما عدا ذلك ليس سوى “ديكتاتورية سخط” مقنّعة، تسعى إلى جر البلاد إلى الفوضى بدل المساهمة في البناء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى