قراءة “اضطرارية” في بودكاست “كلام في السياسة” لصاحبه توفيق بوعشرين

كنت قاب قوسين من أن أحرر مقالا، أمس السبت، تعليقا على تدوينة ترويجية لحلقة جديدة من بودكاست صاحب “غزوات” الكنبة المنحرفة. لكنه “التريث” وحده في الحكم من أجبرني على انتظار الإطلاع على فحوى الحلقة قبيل التعليق، ولو أن” شهادتي غير مجروحة” في فلسفة البودكاست برمته وفي معده سلفا.
بصوت شبه أنثوي “شتوي”، يُطل علينا توفيق بوعشرين مرتين في الأسبوع، كي يشاطرنا ما يعتبرها “قراءة” للمشهد السوسيو- اقتصادي الوطني.
غالبنا أنفسنا كي لا ندون بعضا من المؤخذات المسجلة على البرنامج وعلى صاحبه الذي تنصل، جملة وتفصيلا، من توفيق “هائج” طلقه بالثلاث ربما في السجن، وأقبل على الحياة مجددا بنفس “ثوري” استمده من عزلة يصفها ﺑ “الأدبية” بين حيطان زنزانته. بينما في الحقيقة، الرجل استثمر فراغه، وقتذاك، في البحث عن ما يشبه مأساته في الأدب والرواية العالمية حتى يقول لنا ﺑ “وجاهة أدبية” أنا حالي من حال النخبة والصفوة.
هم يقولون؟ ماذا يقولون؟ دعهم يقولون؟ هكذا يطوي مُوَاقِعْ النساء -دون رضاهن- سجالاته القضائية مع ضحاياه ومع الرأي العام الوطني. هكذا قد يبدو الذئب حملا “وضيعا”، عفوا وديعا. وبهكذا مبرر يُخرس ضميرا وُلد ميت أصلا حتى يحرم ضحاياه من رد الاعتبار المعنوي والمادي.
باعتماد فضاء ضيق لا تتعدى مساحته بضع أمتار مربعة تُغَيِّبُ تفاصيله إضاءة خافتة، أُريد لها أن تكون كذلك حتى تستقر الأنظار على جلسة بوعشرين وعلى هندام بوعشرين وعلى تفاصيل طلته البهية، بما تتضمنه من ملابس وإيشارب “المتمردين” واكسيسورات رجالية باهظة الثمن، يضحك بها على ذقون الطبقة المتوسطة التي يتباكي لأجل عيونها بمناسبة فاتح ماي. في حين المتحدث “الحربائي” ينتمي إلى الطبقة المخملية التي تعيش في Morocco، ولا وجود في قاموس انشغالاتها اليومية ما يستدعي السخط بفعل فشل السياسات العمرانية، التي انتفخت أوداجه وهو يتحدث عنها بِمُثُلْ المدينة الفاضلة “أرني مدينتك أقول لك من أنت”.
إن تقييم مكتسبات الشغيلة المغربية في عيدها الأممي لن يغير من مكونات قفته اليومية المليئة، لا محالة، بالأجود و “راس سوق” من مواد غذائية ليست في متناول الطبقة المتوسطة، التي يُراهن على “قفتها الغذائية” لتوسيع نطاق انتشار الحلقة، وما يرافق الأمر من مراكمة “الصرف” ومزيد من الشعبية الشعبوية.
وهنا يقول عقلاء المنصات الاجتماعية ممن لا تعوزهم المقدرة على الدفاع أو تثمين مكتسباتهم الحقوقية: “إن لم تنتمي إلى طبقة فلا تكلف نفسك عناء الدفاع عنها. فدفاعك عنها سيغنيك وسيزيد من فقرها. إن الدفاع عن “المتعثرين” يزيدهم تعثرا وكل من مرة بدربهم “يقضي حاجة” وهم لا يراوحون مكانهم. إذن، هل الخلل في الدفاع عنهم أم في النوايا المضمرة خلف هكذا مزايدات على الدولة وعلى الوطن؟
يقول مارك توين: “خداع الناس أسهل من إقناعهم أنهم قد تم خداعهم”. لهذا، ليس كل الذين يدافعون عنك هم دائما مناصروك، بل قد يكونون أعداءك، وفي أحسن الأحوال قد يكونون داعمين مرحليين لغاية في نفس يعقوب أو تنفيذا لمخطط معين. وربما يبيعونك لاحقا ويتخلون عنك بعد أن تنتهي صلاحيتك.
بمكر ودهاء الثعالب يقتاد توفيق بوعشرين بعض “السذج” من المشاهدين، لنقل هكذا حتى لا نقع في مغبة وضع البيض كاملا في سلة واحدة ونبخس الأغلبية الواعية حسن استيعابها للتلاعب الشعبوي. بوعشرين يُخاطب متابعيه بمنطق “قلبي علينا”، كما قال الشاعر وهو يتوحد مع القارئ ويجعل المأساة واحدة حتى يتعاطف معه القارئ من جهة، ويُشعره بالانتماء ﺑ “إذا عمت هانت”. ينهل الرجل باستفاضة من قاموس دغدغة المشاعر في التعاطي مع المشاهد حتى يستكين وتتخدر ملكة العقل لديه، فيرى في ظهر المغتصب درعا واقيا يتلقى الطعنات بدل الشعب وباسم الشعب ومن أجل الشعب، مقابل وقت الشعب ولايكات متناثرة هنا وهناك من أبناء الشعب هي، في نهاية المطاف، أموال افتراضية تصير أوراقا نقدية نهاية كل شهر.
من بوابة السجن إلى بوابة استوديو تحليلي، قفزة نوعية بلا شك. لم يكتئب المعفى عنه كما نسمع عن السجناء الطلاقاء، ولا احتاج لمرافقة نفسية لفترة من الزمن كي يتجاوز محنة “لم يسعى لها” كما يُسَوِّقُ للأمر بين مؤيديه كما معارضيه. لم يكن الأمر يستحق ربما خلوة بالنفس وتراجعا إلى الخلف لعقد مراجعة فكرية مؤداها “اليوم الدنيا وغدا الآخرة”. فإصلاح ذات البين وإبراء للذمة وتخليص لمستحقات عالقة في عنقه حتى إشعار آخر.
أكان توفيق بوعشرين مسجونا حقا أم في إجازة مفتوحة؟ وإن قبلنا على مضض أن “فلوس قطر” التي اكتنزها، على مر سنوات، قد تُرمم، لاحقا، جسدا متعب المظهر بعد فترة من السجن، وقد تُنظف أوساخا وتصبغات تركت آثارها على جلده، لأن شمس المؤسسة السجنية أقل اختراقا لمسامات الجلد من شمس الحرية. لكن، ماذا عسانا نقول عن وجه مكتنز وبطن يسبقه بأمتار؟ وساعدان ضخمان وهيئة جسمانية مكينة ومعصم يد لا يتزين إلا بالفاخر من الساعات؟
يحدثنا عن هواجسه تارة، وطورا يمنح المشاهد جرعات من مواد أدبية كي يعتقد أنه في حضرة إعلامي يلتزم برفع وعي وفكر متابعيه، دون أن يستحضر أثناء بوحه “الفضفاض” أن السواد الأعظم ممن يستهدفهم ببرنامجه وينعتهم ﺑ “الفقراء”، ليسوا في حاجة إلى من يدلهم على صناع الأدب ورموز الاشتراكية والليبرالية والإمبريالية والشيوعية، وغيرها من التيارات التي يختبئ ورائها بوعشرين ليقول لنا أنه مزاجي الفكر مثل الأديب البيروفي ماريو بارغاس يوسا. إنما واقع الحال وما عايناه من فيديوهات “خليعة” لم نرى ولم نشهد فيها إلا رجلا مزاجي “الهوى” ومتقلب “الأهواء”، التي لم تتوقف إلا عند حد خمسين فيديو جنسي. وكان العدد ليرتفع لولا الألطاف الإلهية والعدالة التي أخذت مجراها وخلعت ثوب “الوداعة” عن ذئب متمرس في الافتراس.
“رجل لا يخجل من ماضيه ولا تاريخه لكنه يُعيد كتابته كما يشاء بالحبر الليبرالي”، هكذا قال أو تَقوَّلَ توفيق بوعشرين، والعهدة عليه، على لسان أيقونة الأدب اللاتيني ماريو بارغاس يوسا، الذي صوره لنا، ﺑ “الرجل الثوري” المتحمس، الذي لم يحتمل يوما العيش داخل وطنه. غير أن يوسا ترشح إلى رئاسة الجمهورية في مواجهة بطش الجنرالات حينما أيقن أن القلم لم يجد نفعا للإطاحة بهم.
“فكلما كتب عن موطنه البيرو نال جائزة”. توفيق، هنا، لا يتحدث إلا عن نفسه. توفيق يتدثر جلباب يوسا ليقول لنا وحُمرة التوتر تعلو محياه، أنا رجل يُعيد تشكيل ماضيه وحاضره من خلال الكتابة المنمقة والبوح المشحون بالشجن و”الأدب”، وسيرة البعض من أهله ممن يُشاطرونه تجاربه “الشبقية” التي لن يطويها الزمن إلا عبر الإقرار بها.
“الأدب” غاية المرء ومتعة قد تطوع اعوجاجه، لكنه لا يصلح إطلاقا لاستصدار شهادة “حسن سيرة وسلوك” جديدة يا توفيق !!!



