سليمان الريسوني..حين تنقلب حرية التعبير إلى تطاول على الأجهزة الأمنية

ما أشد بؤس الكلمة حين تُخلع عنها أثواب الحكمة، فتغدو سهاما طائشة لا تفرق بين النقد الرصين والإساءة المقيتة، ولا تميز بين حدود الحرية وقيود المسؤولية. إن الإنسان، منذ خلقه، ظل يحمل في جوارحه ذلك الصراع الأبدي بين نزعة الانفلات وضوابط التروي، بين غواية اللسان وسلطة العقل، بين شهوة الهدم وسكينة البناء. وما قضية سليمان الريسوني إلا تجل صارخ لهذا الصراع، حيث استحال القلم، الذي يفترض أن يكون منارة للفكر، إلى معول ينهش في صرح المؤسسات، دونما وعي بعواقب الكلمة حين تفقد بوصلة الاحترام.

لقد كانت تدوينته، التي أطلق فيها العنان للعبث بمكانة القوات المساعدة، صورة مكرورة لمشهد اعتدناه في أوساط من جعلوا من الحرية قناعًا لطمس الحدود بين الحق والتجاوز، ومن الصحافة ساحة لصراعاتهم الشخصية، حتى وإن كان الثمن هو التشكيك في دور المؤسسات وفتح الباب أمام جوقة من الأصوات التي لا تجيد سوى القدح والتجريح. فكيف يُعقل أن يُزجّ بجهاز وطني، يؤدي مهامه وفق مقتضيات القانون، في وحل المعارك السياسية؟ وكيف يُسوّغ لرجل يفترض أن يكون فارسا للكلمة أن يحول قلمه إلى خنجر مسموم، يطعن به هيئات لا يد لها في سجالاته؟

إن القوات المساعدة، شأنها شأن غيرها من المؤسسات التي تقوم على النظام والانضباط، لم تخلق لتكون طرفا في معارك الأهواء، بل وُجدت لخدمة الأمن والاستقرار، باذلةً في سبيل ذلك أعمار رجالها وسهر لياليهم في يقظة لا تعرف الكلل. فكيف يُهان هؤلاء؟ وكيف يُمسّ مقامهم بالسخرية والانتقاص؟ أليس في ذلك جناية على شرف الكلمة، قبل أن يكون جناية على القانون؟

ولأن لكل تجاوز حسابا، فإن الفصلين 263 و265 من القانون الجنائي المغربي، والفصل 83 من قانون الصحافة والنشر، جاءت جميعها لتضع حدًا لمن يتوهم أن الحرية تمنحه صكّا مفتوحا للنيل من الهيئات، متناسيا أن للقلم مسؤولية لا تقل عن مسؤولية السيف، وأن للغة هيبة لا تسامح من يعبث بقدسيتها.

أما القضاء، فهو ميزان الحكمة حين تختلط المفاهيم، وسيف العدل حين يتمادى البعض في جعل الفوضى حقا مشروعا. فهو الذي يحدد متى يكون الرأي ممارسة مشروعة، ومتى يتحوّل إلى عدوان لفظي مقنّع، ومتى تكون الكلمة صرخة حق، ومتى تصبح مجرد صدى لأهواء شخصية تتخفى وراء الشعارات الفضفاضة.

إن الريسوني وأمثاله، ممن اتخذوا من التدوينات الإلكترونية منابرَ للهدم تحت ذريعة التعبير، يخطئون حين يظنون أن الإساءة تمر بلا حساب، وأن القانون يقف عاجزا أمام من يحترف التحايل على معاني الحرية. فالحرية، في أسمى معانيها، ليست في أن تقول كل شيء، بل في أن تعرف متى تصمت، وألا تدع بريق الكلمات يخدعك، فتكتب جملةً تكون هي أول مسمار يدق في نعش مصداقيتك.

فهل آن لنا أن نرتقي بمداركنا، ونفهم أن الكلمة مسؤولية قبل أن تكون حقًا، أم أننا سنظل ندور في فلك من يرفعون راية الحرية، بينما يطعنونها في الظهر كل يوم؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى