من زلزال الحوز إلى مهرجانات المغرب.. الحياة تَذُبُّ في أوصال الوطن وتدحض خرافة المقاطعة تحت شعار “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”

من رأى عن كثب ليس كمن سمع أو شاهد عبر مواقع التواصل الاجتماعي. فمنذ أن انطلق العدوان على غزة والمتكالبون على الوطن لا ينفكون عن الانخراط بدورهم، في عدوان مماثل يستهدف المغاربة في حقهم في الحياة والانبساط، بعيدا عن المزايدات الشعبوية الرامية إلى جعلنا كشعب نعرج على هامش الحياة دون أن نحياها.

ومع تعالي الأصوات النشاز هنا وهناك، بدأت الشكوك تتسرب إلى نفوسنا وتتمكن من أفئدتنا، غاية اعتقادنا أن المغاربة ربما زَهِدُوا في الحياة واعتنقوا البؤس على حساب الحياة ومسراتها المشروعة. فأضحت الحيرة والتساؤلات تتقاذفنا: من يتحوز على حقيقة المشهد بالضبط؟ أنستسلم بمهانة لسيناريو مطرز بإتقان يقضي بأن المقاطعة آخذة في اكتساح البلاد وعقول العباد أم نجابه الطروحات الظلامية بالتمسك بحقنا في الفرح والرفاه الثقافي، دون الإفراط فيه أو التفريط في تضامنها الراسخ والفعلي مع أشقائنا الفلسطينيين الرازحين تحت وطأة المرض والجوع وقلة ذات اليد كتبعات فرضها العدوان الأخير على غزة؟.

البداية كانت من الصويرة، مدينة الرياح التي تتنفس عشقا و وَلَهًا بفن كناوة، حيث لا يخلو بيت صويري من “كناوي الروح والتنشئة” على الأقل. وحتى أطفال المدينة يحفظون عن ظهر قلب خالدات ألمع رموز فن تاكناويت. واقع المدينة الثقافي والفني يمتح ومنذ القدم من مَعِينْ التعايش المشترك بين المغاربة واليهود، وهو المشهد الذي تأتى بفعل جغرافية المملكة والتي رسمتها دقة إلهية جعلت من كل جهة رافد ثقافي قائم بذاته.

ولجنا المدينة “الكناوية” بامتياز، وما تيسر من محادثات متقطعة تتناهى إلى مسامعنا، بين الفينة والأخرى، تتبادلها الساكنة المنتشرة على طول الساحل أو بمحاذاة “مقهى فرنسا” الشهير، بشأن قرب انطلاق الدورة ال25 لمهرجان كناوة وموسيقى العالم. الكل ينتظر هذا الموعد الثقافي بشوق، من جهة يحقق أسباب الفرح والانبساط للساكنة المحلية، ومن جهة ثانية ينعش المدينة اقتصاديا.

انطلقت سهرات المهرجان بمختلف المنصات المعدة خصيصا لهذا الغرض، توزعت بين ساحات عمومية ومنشآت ثقافية، حج إليها الجمهور المغربي والأجنبي بأعداد غفيرة. ولعل المشهد الذي تكرر أمام أعيننا وفي مدن أخرى على غرار أكادير حيث نظم مهرجان تيمتار الأمازيغي، هو افتراش المغاربة لجنبات الطريق أو الحدائق المحاذية لمنصات المهرجانات، في انتظار انطلاق السهرات أو لأخذ نفس واستئناف الوقوف وسط الحشود. وهنا لم يكن ممكنا إلا أن نشعر بغباء لحظي، لأن مشعر الظلاميين قد أدخلونا في دوامة من الشكوك والحيرة حيال حقيقتنا كشعب محب للفن والثقافة والتراث.

أكادير، عاصمة سوس العالمة طرزت بدورها مشاهد فنية وثقافية أنيقة وهي تستقبل الدورة ال19 من مهرجان تيمتار الأمازيغي ذي الصبغة العالمية، الوفي لشعاره “الفنانون الأمازيغ يرحبون بموسيقى العالم”. أينما وليت وجهك تجد المغاربة شيبا وشبابا وأطفالا يؤثثون ساحة الأمل، حيث تُقام فعاليات المهرجان. إنه موعد صيفي ينتظره المغاربة عامة، وساكنة جهة سوس خاصة للقاء أبرز نجوم الأغنية الأمازيغية والعربية، أمثال المطرب المصري حمزة نمرة، الشغوف بالتراث المغربي الذي انتظره الجمهور كي يعتلي المنصة حتى منتصف الليل.

وبالعودة إلى نقطة الانطلاق، مدينة مراكش التي احتضنت الدورة ال53 من المهرجان الوطني للفنون الشعبية، التي جرت أطوار سهراته في فضاءات مختلفة بالمدينة الحمراء، بعضها بقصر البديع التاريخي والمسرح الملكي، فيما باقي العروض نظمت بساحة جامع الفنا. ما شهدناه بمدينتي الصويرة وأكادير من حضور جماهيري كبير تجدد وتضاعف بمدينة سبعة رجال، حيث يتميز المهرجان المذكور بطابعه المتفرد، والمتمثل في خلق توليفة فنية بين كافة الأنماط التراثية المغربية، من أحواش الحوز وأحيدوش وعبيدات الرمى وكناوة وغيرها الكثير من الأنماط التراثية العابرة لحدود الوطن.

وعلى الرغم من كون المهرجان يوصف بكونه نُخبوي وأن تذاكره ليست في متناول جميع شرائح المجتمع، لاسيما المتعلقة بعروض قصر البديع، غير أن هذا الفضاء التاريخي امتلأ عن آخره بأبناء الوطن التواقين لسماع تراث الأجداد برُقي، بعيدا عن أصحاب الفتوى الهدامة “المقاطعة دارت خدمتها”.

وأخيرا وليس آخرا، لنتوغل قليلا في أعالي ومنحدرات إقليم الحوز، المنبعث من ويلات الزلزال الأخير. المنطقة هي الأخرى لم تسلم من مكر الحاقدين على الوطن، وهم يروجون في جلساتهم لما مفاده “إقليم الحوز مشا”. الإقليم الشاهق بتضاريسه الوعرة يتعافى شيئا فشيئا والحياة تَذُبُّ في أوصاله من جديد، بفضل برنامج بناء وإعادة ترميم المساكن المتضررة من الهزة الأرضية التي ألمت به. آثار الزلزال بدأت تتوارى إلى الخلف فاسحة المجال أمام بروز مباني ومنازل مشيدة بمعايير صارمة ودقيقة. والنتيجة كما يحكيها سكان “منطقة ويركان”: “قضينا عيد الأضحى بمنازلنا الجديدة”. فعلا صدق شاعر فلسطين الفَذْ محمود درويش حينما قال “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى