تقرير | إعلام مواطن من أجل الحقيقة أم أقلام مأجورة لمن يدفع أكثر؟ صحيفة “The Guardian” نموذجا

بغض النظر عن الجدل الذي أثاره تحقيق “فوربيدن ستوريز” حول قضية “بيغاسوس”، وبغض النظر عن كون المعطيات الواردة فيه -معظمها إن لم يكن جميعها- تتضمن مغالطات تبين أنها بُنيت على احتمالات خيالية، دون تقديم دليل مادي وملموس واحد بذلك الخصوص، وأيضا بغض النظر عن الأجندات السياسية التي يخدمها “فوربيدن ستوريز” ومصادر تمويلاته، قررنا اليوم في موقع “المغرب ميديا” التطرق إلى تفصيلة قد يغفل عنها البعض، لكن الأكيد لن يغفل عنها المتمرسون في الميدان، أي ميدان الصناعة الإعلامية.
ويتعلق الأمر بسؤال واحد: ما الربح الذي تجنيه وسائل الإعلام المنخرطة في حملة “بيغاسوس”؟
الأكيد أن الأمر لا يتعلق بـ”رسالة إعلامية نبيلة”، الغرض منها تنوير الرأي العام وإيصال الحقيقة للمواطن. لأنه لو كان الأمر كذلك، لكانت على الأقل “الموضوعية” عنوانا لما تنشره تلك الصحف ومواقعها الالكترونية، بدل التركيز على هدف أو أهداف معينة دون غيرها، ما يؤكد أن الأمر من وارئه أجندات جهات معينة، إما لها خصومة مع الطرف أو الأطراف المستهدَفة، إما أنها تريد إعادة توجيه المصالح المشتركة بينهما بما يخدم الجهة المُستَهدِفة.
لكن بما أن الأمر يتعلق بمقاولات إعلامية ضخمة، فإن الجانب المادي حاضر وبقوة، ومن غير المنطقي أن تشتغل هذه المؤسسات مجانا أو بهدف غير ربحي. لهذا، سنحاول في هذا المقال تسليط الضوء على جزء من هذا الجانب.
فالمعروف لدى الجميع، أن المؤسسات الإعلامية التي تتعامل مع “الجمهور” كزبون، يكون شغلها الشاغل هو تحقيق أكبر عدد من الأرباح سواء بمبيعات النسخ في الصحف والمجلات، أو عدد المشاهدات على قنواتها التلفزيونية والمنصات الرقمية، وبالتالي جلب عدد مهم من المستشهرين والمعلنين لتلك المؤسسات.
بينما الصحافة التي تتجاهل الجانب الربحي وتتخذ من خدمة المواطنين وتنوير الرأي العام وما إلى ذلك من الشعارات “المثالية”، قد تحقق نجاحات في فترة من الزمن، إلا أن التجربة أثبتت أن هذا النوع من الصحافة يعاني من انتكاسات مالية ضخمة.
ورجوعا إلى النوع الأول من المؤسسات الإعلامية (أي التي تتعامل مع القراء كزبناء)، كي تنجح في تحقيق أهدافها، لا بد لها من اللعب على وتر صحافة الفضائح والإثارة التي تحقق نجاحا مبهرا من حيث عدد مبيعات صحفها أو عدد المشاهدات على قنواتها أو مواقعها الالكترونية. وهذا النوع من الصحافة عادة ما يروج لمحتوى صحفي غير موضوعي وغير متوازن، وفي أحيان كثيرة، زائف.
ولكن بعدما تأثرت العائدات الإعلانية التي تشكّل أحد الأركان الأساسية لتمويل الصحافة، وبالإضافة إلى تراجع مبيعات النسخة الورقية للجرائد جراء تداعيات جائحة كورونا، أضحت الكثير من المؤسسات الإعلامية مجبرة على التسابق نحو إيجاد طرق جديدة للتمويل.
ومن أسباب تراجع العائدات الإعلانية، المنافسة الشديدة بين وسائل الإعلام وبين مواقع عملاقة تقدم خدماتها الإعلانية بأسعار منخفضة كـ”فيسبوك” و”غوغل”، حيث لم تعد الشركات ترى في وسائل الإعلام وسيلة مثلى لترويج منتجاتها أو خدماتها.
وفي هذا السياق، أشار تقرير إلى أنه في الفترة بين 2007 و2017، تراجعت مبيعات الصحف البريطانية بقرابة النصف، فبينما كانت مبيعات الصحف اليومية سنة 2008 تصل إلى 11.5 مليون نسخة يوميا، تراجعت عام 2018 لتصبح 5.8 ملايين نسخة فقط، وكذلك الحال بالنسبة للصحف الأسبوعية.
ولتفادي تأثير هذه الخسائر على استمرارية الصحف، بدأت بعضها بوضع رسوم للوصول إلى المحتوى الرقمي كصحيفتي “نيويورك تايمز” و”واشنطن بوست“، في حين سعت صحف مثل “The Guardian” مؤخرا للتحول إلى صحيفة ممولة من قبل القراء أو التمويل التشاركي أو الجماعي (Crowd funding).
وفي هذا الصدد وإذا كنت من قراء الصحافة البريطانية، وتحديدا “The Guardian“، ستلاحظ نصا مثبتا على كل صفحات الموقع، تطلب فيه الجريدة من قرائها التبرع من أجل المساهمة في ضمان مستقبلها.
وقد نجحت الصحيفة البريطانية في الاعتماد على هذه التبرعات كمصدر مهم للدخل، كما دخلت في شراكة مع موقع التمويل الجماعي Kickstarter لتقديم نفسها للمتبرعين عبر منصته الشهيرة.
وهنا يرى خبير التسويق “Seth Godin” أنّ نجاح حملات التمويل الجماعي مرتبط بتصميم استراتيجية متطورة لإشراك الجمهور، عبر التواصل معه بشكل أفضل، وإعادة تقييم احتياجاته.
ويحتاج الأمر للتعرف على طبيعة الجمهور أولاً، وتحديد طبيعة القراء القادرين على الدفع، ونوع المحتوى الجاذب لهم. ليس كل المستخدمين على استعداد للدفع مقابل المحتوى الذي حصلوا عليه مجانًا في السابق.
في نهاية سنة 2018 أعلنت “The Guardian” أن لديها مئات الآلاف من القراء الذين يدفعون مقابل المحتوى. و”الأمر ينتشر بسرعة ويحقق نجاحا ملفتا”، ذلك ما ذكره التقرير السنوي لمعهد “رويترز” لدراسات الصحافة سنة 2020، مؤكداً أنه من المقرر خلال تلك السنة (أي 2020) أن تصبح عائدات القراء مصدراً رئيساً للدخل بالنسبة لنصف الناشرين.
ويقول كاتب التقرير Nic Newman: “يجني الناشرون الذين راهنوا مبكراً على الاشتراكات والعضويات مقابل رسوم معقولة، كبديل للإعلانات، الكثير من الأرباح الآن” .
وجاء في ذات التقرير: “معظم المدراء التنفيذيين في الصناعة (صناعة الإعلام) يقولون إنهم واثقون من آفاق شركاتهم ولكنهم أقل ثقة بشأن مستقبل الصحافة. ويعد توفير الأخبار المحلية مصدر قلق رئيسي”.
ومن أهم النقط التي وردت في التقرير المذكور، هي أن الناشرين يواصلون المراهنة بقوة على إيرادات القراء، حيث قال نصفهم (50٪) أن هذا سيكون مصدر دخلهم الرئيسي في المستقبل. فيما يعتقد حوالي الثلث أن عائدات الإعلانات والقراء ستكون على نفس القدر من الأهمية، مع 14٪ منهم يعلقون آمالهم على الإعلان وحده.
كما أكد عدد كبير من المسؤولين في مؤسسات إعلامية في العديد من البلدان أن إيرادات القراء توفر دخلاً مستقرًا ومتزايدًا بينما ظلت الإعلانات متقلبة.